كانت وفاة سلمى فرح المفاجئة، في شقتها الوادعة، ذات مساء، هي المرة الأولى التي يعاين فيها الراوي الموت. ولن تبقى حياته بعدها، كما كانت عليه قبلها. لكن مأساته بدأت قبل تلك الليلة بعامين، حين اختفت حبيبته كلارا نهائياً، وهي في طريقها من «المعهد الملكي» إلى صالة الشاي في حديقة لوتيسيا، التي تبعد عنه مئات الأمتار فقط، حيث كان ينتظرها. كان اختفاؤها لغزاً محيّراً يستحيل فهمه، إذ لم يكن قسرياً قط، كما أكّدت التحقيقات كافة، بل هو اختفاء طوعي، تعذّر تماماً إدراك أسبابه وظروفه. مذ ذاك، باتت لحياته غاية واحدة: البحث عنها بلا توقف ولا هوادة.

يذكر الراوي في مفكرته: «كم عدم الفهم يقلقني ويقضّ مضاجعي، ويثير فيّ عذابات مبرّحة، فطالما اعتقدت بأن حدثاً كبيراً ينتاب الحياة الذاتيّة، ويتعّذّر تماماً إدراك أسبابه ومعانيه، يمكنه دفع الإنسان إلى الجنون. إني أغبط الذين لا يتوقفون عند عدم الفهم، ولا يعنيهم حقاً، فيستمرون معه في حياتهم العاديّة كأن شيئاً لم يكن، وهمّ، على ما أظنّ، غالبية البشر. أما أنا فلا أستطيع. لكن على الرغم من الاضطراب العميق الذي يلفّ أيامي ولياليّ منذ اختفاء كلارا، وتوقف الزمن والحياة عند ذلك النهار، أراني لم أصب بالجنون، أو هذا ما يتراءى لي».

Ad

عمل روائي آخر لأنطوان الدويهي يأخذ مكانه في عالمه الأدبي الغني، المرهف الجماليّة، المستمدّ من حيوات داخليّة عميقة واسعة الآفاق، يلتئم فيها الوعي واللاوعي، والذات الفرديّة والذات الجماعيّة، وضفاف العالمين والزمنين وهواجسهما. فما يتفق الكتّاب والنقّاد عليه، في مقاربتهم أدب الدويهي، هو قبل أي شيء، فرادته. إنه أدب الأعماق، علامة فارقة في الآداب العربية، القديمة والمحدثة، تشكل إضافة قيّمة إلى المكتبة العربية، في بعدها الجمالي والإنساني.

فرادة وعمق

وصف الصحافي والكاتب سمير عطالله أدب أنطوان الدويهي بالتالي: «مذ بدأت في قراءة الدويهي اعتدت الانجذاب في غبطة إلى هذا الخدر الآسر الأثير. فليس أهنأ إلى نفسي من قلم له هذه التجربة في عمق الذات، وله مثل هذا الصمود في عمق النقاء. له نوتة فريدة بيان أنطوان الدويهي» (2001). أما الشاعر عبده وازن فكتب عن الدويهي: «لا تشبه كتابة الدويهي إلا نفسها، فهي نسيج فرادتها ووحدتها وعزلتها. إنها الأنا الغارقة في الحنين إلى الزمن المفقود، وهي الأنا القادرة على احتواء الآخر والعالم» (1993).

أما الكاتب محمود حيدر فكتب حول أدب أنطوان الدويهي: «إنها كتابة العتمة في حالات الإضاءة، وهي بهذا التوصيف كتابة مرآوية، تشعّ من مرآة الداخل في لحظة صفاء، فإذا الكلام الصادر منها دوائر بلّوريّة، لا تشوب لمعانها شائبة. كأن يكون النص واصفاً لمشهد رآه، لا مؤلفاً لثقافة مكتسبة. فهو راء لما لم يره الآخرون» (1994).

من جهته، قرأ الأديب موريس النجار أدب أنطوان الدويهي على النحو التالي: «يستوي على الرف الذهبي في خزائن تراثنا مع «النبي» لجبران، و«كتاب عبدالله» لأنطون غطاس كرم، و«مرداد» لميخائيل نعيمة، وغيرها من المنارات المضيئة في دروبنا. ومن الأعجب حقاً طواعيته على ترويض الكلام وتحريكه، ليعبّر بدقة عجيبة تلامس الإعجاز، عن مدّ النفس وجذرها. فإذ أنت، معه، تجوب ممسكاً أنفاسك دهشاً، المساحة المتوهجة، الدقيقة، الفاصلة بين الوعي والمحسوس واللاوعي الكامن» (2004).

نبذة

أنطوان الدويهي، روائي وشاعر ومفكّر لبناني. دكتور وأستاذ جامعي في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (علم الحضارات المقارن). صدرت له عن دار النهار للنشر بين 1993 و2003 الأعمال الأدبية التالية: «كتاب الحالة» (شعر)، «حديقة الفجر» (سرد)، «رتبة الغياب» (سرد)، «الخلوة الملكيّة» (سرد)، «عبور الركام» (رواية). صدرت له عام 2013 عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» و«دار المراد»: «حامل الوردة الأرجوانية» وهي العمل اللبناني الوحيد الذي تأهل للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2014، ثم رواية «غريقة بحيرة موريه» التي مع تأهلها للبوكر أيضاً، حازت جائزة «أفضل عمل روائي لبناني» للعام 2015، الصادرة للمرة الأولى عن وزارة الثقافة اللبنانية. وللدويهي مؤلفاته الأكاديمية ومئات المقالات.