نحن نقول هذا نرجسي لأنه يحب ذاته. ولكننا نخلط بينه وبين صاحب «الأنا» المتضخمة، أو المتورمة، والتي نعتبرها مرضية بالضرورة. هذا الخلط أساء في الموقف النقدي إلى الشاعر النرجسي بسبب مماثلته مع شاعر الأنا المتضخمة.

إن هدف ملاحظتي النقدية هذه هو إلقاء الضوء على ما يمكن أن يسيء إلى فهم شاعر كأبي نواس، بفعل مماهاته مع شاعر كالمتنبي.

Ad

إن شاعر الأنا النرجسية ينصرف في احتفائه إلى جسده، بكل ما ينطوي عليه هذا الجسد من حواس وروح وعقل. هذه العناصر الحية جميعا تتمحور حول فيوضات الحب وحده.

أبونواس يحب ذاته، ويسرع إلى ملذاته، وكل ما يتماس مع ذاته. يحب الآخر المُنتخب، والحياة المنتخبة. ولعله قادر عن رغبة على جعل كل ما في الآخر وكل ما في الحياة قابلا لفيوضات الحب. يقول أبونواس في واحدة من قصائده:

الحب فوقي سحاب والحب تحتي سيول

فذا يسيخ برجـلي وذا علي هطــول

وللصبابة عنـدي محلة وقبيــــل

وليس حـولي إلا رياح حب تجــول

أمام فيض الحب هذا لا يمكن أن تجد ما تأخذ على شاعره. إنها عاطفة حب تشمل ذات القائل وذات الآخر معا. وتفيض على الحياة ذاتها. إنها في جوهرها قوة خيرة، لا تشوبها ضغينة، ولا يتبطنها شك ولا ارتياب. في الشعر الأميركي نجد ولت ووتمان، المؤتمن على عاطفة الحب، التي تنطلق من حب ذاته أولا، ثم تفيض كريمة على الآخر وعلى الحياة. ويمكن استيعاب ظاهرته حتى لو اقتصرت قراءتك على قصيدة شهيرة واحدة من قصائده الكثيرة، هي قصيدة «أغنية نفسي».

في المقابل هناك شاعر الأنا المتورمة، التي تسعى باتجاه السطوة والسيطرة، لا باتجاه الحب. ولذلك تعتمل فيها مشاعر التعالي، والحط من شأن الآخر وإلغائه. إنها عبوة للمشاعر المرضية: ارتياب، وسخط، وضغينة تنطلق من أنا تحار بكيفية التعبير عن تعاليها. فهي نبوية حيناً، وحيناً أكبر من حجم الحياة. وهي في كلا الحالتين إيهامية؛ قد يسهل عليها إيهام النفس، ولكنها تتشكك بشأن قدرتها على إيهام الآخر، ولذلك تظل محتقنة، مرتابة.

الشعر العربي يزخر بهذه الأنا المتورمة، الأنا النبوية، تراها متربصة دائماً بقصائد الشعراء، تطل برأسها كأفعى سامة.. وهي محرجة أبداً، للعقل والروح المتعافيين. وهي محرجة أيضاً في ترجمتها إلى لغات لم تألفها. ولعل جذورها تمتد في عربيتنا إلى غرض «الفخر»، حتى لو كان فخرا غير فردي، كالفخر بالقبيلة أو بالعقيدة أو بالأمة.

هناك طرف ثالث يتعارض مع الذاتين النرجسية والمتورمة. يسعى أبداً إلى تحجيم الأنا، وأحيانا إلى ملاشاتها. «أتصاغر، حتى لأدنى الثواني تحار بمقدار حجمي..» يقول الشاعر.

إنه يجدها عارضاً في طريق المسعى الذي يولد «البصيرة»، القادرة وحدها على الرؤية الحقة. أو يجدها، شأن المتصوفة جميعاً، حجاباً يفصل بين الكائن الإنساني وبين الله.

إذا اخترنا أبا نواس للأولى، والمتنبي للثانية، فأبوالعلاء خير ممثل للثالثة.

هذه الأخيرة لا طموح لديها، بل تُغني الرؤية. الشاعر ريلكة كان يقلل من شأن الإرادة، والسعي إلى الشهرة، ويحتفي بطواعية التصبر والعزلة والانفتاح. تي إس إليوت شديد الحرص على تلاشي أنا المتحدث داخل القصيدة. «شعراء المتاهة» جميعاً يحذرون «الأنا». يحذرها السياب، البريكان، صلاح عبدالصبور... أسوة بشيخهم أبي العلاء. «شعراء الراية» يتعلقون بأذيال «ذاتهم» المتضخمة، بفعل سعيهم الدائب إلى إعلاء شأن «الفكرة»، لا الإنسان، وإلى إرضاء أكبر قدر من الجماهير، ومن ثم إلى الشهرة والمجد.

فإذا قال المتنبي: «أنا ترب الندى ورب القوافي..»، يقول أبوالعلاء: «أنا مني كيف أحترس..». وإذا قال أدونيس: «قادر أن أغيّر، لغم الحضارة هذا هو اسمي..»، يقول عبدالصبور: «من أين آتي بالكلام الفرح..»؟ والشواهد كثيرة في العربية.