رحم الله أبي كان يقول لي بصوته الهادئ: "في شهر رمضان نحسب أيامنا متوهمين أنها أيام رمضان".

في ذلك الزمان، وأنا هنا أتكلم عن عقدي الستينيات والسبعينيات، كان لشهر رمضان حضور مختلف تماماً بالنسبة لي. فوالدي إمام مسجد، وهو أساساً ينحدر من عائلة معروف عنها التدين السمح، البعيد كل البعد عن الغلو والتشدد والانغلاق... على رأس ما أذكر أن شهر رمضان كان يرمي على بيتنا عباءة من قراءة القرآن والصلاة وهدوء يشمل كل تعاملاتنا. ففي ليلة منتصف شهر شعبان، يجمعنا أبي ليقرأ سورة ياسين، وبعد الانتهاء من القراءة، يحدثنا بشيء مما يجب علينا فعله في أيام وليالي رمضان ويؤكد علينا: "كما في الحج، لا جدال ولا سوء في رمضان".

Ad

هي قناعة أبي؛ شهر رمضان، شهر تعبد وسكينة ووصل إنساني طيب، وكل هذا يكون في بُعد عن المظاهر الكاذبة. وهكذا انطبعت ذكرى روحانية خاصة لشهر رمضان في قلبي ووعيي. وبقدر ما تحمل هذه الذكرى من الخاص تحمل من العام. ففي "فرجان" الكويت كان الوصل بين أهل الفريج الواحد كأجمل من يكون في تبادل الزيارات والأكلات، وأخيراً فرحة الأطفال في ليلة المنتصف من رمضان بما يسمى بـ"القرقيعان"، وهو قيام الأطفال بالانتقال من بيت إلى آخر، والغناء أمام البيت بسلامة الأطفال والدعاء لهم بالعمر الطويل، في مقابل قيام أهل البيت بإعطائهم شيئا من الحلويات. ووحدهما البساطة والفرح كانا يحكمان ويتحكمان في تلك الظاهرة.

دار الزمان دورته، وصار رمضان أشد ما يكون غربة. وربما هو شعوري الخاص، كأن رمضان يستحي من أن يقابلنا! فقبل مجيء رمضان تبدأ الشركات والأفراد بالإعلان عن انتشار الأسواق التي تبيع الحاجيات الرمضانية، وقبل مجيء رمضان تبدأ المحطات الفضائية بعرض مقاطع عن الأعمال التلفزيونية الخاصة برمضان، وقبل مجيء رمضان تهتم بعض الأسر بترتيب ما ستقدمه في ليلة "القرقيعان" لأبنائها، وقبل مجيء رمضان تبدأ الجرائد في الكويت بنشر أسماء وعناوين الدواوين ومواعيد جلوسها، وقبل مجيء رمضان تستعد الأسر لمزيد من الشراء والبذخ والأكل ورمي الفضلات!

غريب، صار يأتي شهر رمضان، وهو يستحق ذلك. فكيف برمضان شهر الرحمة وشهر المغفرة شهر القرآن وليلة القدر أن ينظر إلى أحوالنا البائسة. العنف المتوحش يستشري بين الاخوة وفي البيت الواحد والوطن الواحد، بدءا بالنميمة والحسد والنفاق وانتهاء بالتآمر والقتل والتدمير. المادية تتحكم في الكم الأكبر من مشاعرنا وسلوكنا، وإذا كان البعض لم يزل يستقبل ويعيش رمضان بما يستحق من عبادة خالصة، فهو البعض الأقل. إنما السواد الأعظم، وعلى امتداد أقطار الوطن العربي، يعيش رمضان شهر البذخ والأكل والسهر والخيم الرمضانية والحفلات التي تنشغل بروادها لحين دخول وقت السحور.

ما يستحق التوقف عنده، هو أن هناك مجاميع من الشباب؛ الأولاد والبنات، يمارسون رمضانهم على النحو التالي: ينامون مع علو شمس الصباح، في الرابعة أو الخامسة، ويستيقظون في الثالثة أو الرابعة عصراً، للجلوس أمام التلفزيون ومتابعة التمثيليات والمسلسلات وتفقد تلفوناتهم النقالة ورسائل الواتساب والتويتر والسناب شات، وحتى دخول موعد الإفطار، ليبدأ الأكل، والعودة إلى التلفزيون، قبل الخروج إلى دعوات مآدب رمضان.

مجاميع من الشباب، على طول وعرض الوطن العربي، ينتظرون شهر رمضان، شهر الموائد، وشهر السهر، وشهر التلفزيون والمسلسلات البائسة والمظاهر الكاذبة، والحفلات، والنوم، وكل شيء إلا القرآن والصلاة والخشوع والتفكر في مغزى الصوم؛ فمن صام صامت جوارحه. وما دامت هذه الجوارح فاغرة فمها مستشرية، فإن شيئاً رئيسياً يغيب عن الصائم.

رمضان شهر عبادة خالصة لوجه الله؛ "الصوم لي وأنا أجزي به". ولأنه كذلك فنحن أحوج ما نكون إليه في زمن تلوّث بجنون المادية والعنف والتوحش وجنن الإنسان معه.