كيف ولدت فكرة معرضك الأخير «ذاكرة الأرض»، وهل للأرض ذاكرة؟

يشمل موضوع ذاكرة الأرض أموراً كثيرة مرتبطة بالثيمة الأساسية التي أعمل عليها منذ فترة، وهي رمزية حارس التاريخ، والأخير امتداد لرسالة الإنسان على الأرض منذ الخليقة.

Ad

أعتبر أن رسالة الإنسان الحفاظ على الأمانة التي حمَّله أياها الله سبحانه وتعالى، فكل إنسان منذ بداية الخليقة حتى الآن مرتبط بالمكان والزمان وهو حارس لهذه الرسالة وللقيم والمبادئ والعقيدة والتقاليد... هذه العناصر من وجهة نظري ذاكرة أساسية للأرض في أعمارها بثقافاتها وحضاراتها وأماكنها وأزمنتها كافة، وهي ليست ذاكرة تاريخ فحسب. الإنسان صنع التاريخ والتراث، ولكنه ترك على الأرض مجموعة من الممارسات والقيم وشكَّل بها ذاكرة الأرض عموماً. من هنا، شملت الموضوع كله في ذاكرة الأرض.

فلسفة الغرانيت

ولكن ذاكرة الأرض ترتبط أيضاً بالغرانيت كخامة أساسية في معرضك.

فعلاً، الغرانيت بخصائصة الطبيعية وإمكاناته التشكيلية مكون أساسي للأرض، فالأحجار عموماً عمرها من عمر الأرض، وأنا أستدعي هذه الخامة وأترجم من خلالها فكرة ذاكرة الأرض بنظرة فلسفية.

ماذا عن آلية ممارستك الكتابة على الحجر كعنصر أساسي في تجربتك؟

البحث والممارسة والارتباط الفعلي بمضمون التجربة تجعل من الأخيرة مشروعاً فنياً. إذا عدنا إلى 2012 نتذكر معرض «العمارة بإيدي النحاتين»، عندما دعا الفنان إيهاب اللبان، مدير قاعة آفق، بعض الفنانين إلى التفكير في شكل العمارة، وبالتالي طرق على وتر مهم بالنسبة إليّ، أي الحس المعماري والصرحي لمفهوم الكتلة، سواء كانت أفقية أو صرحية، والحلول المستمدة منها. تابعت الفكرة في المعرض، وقدمت تصوراً ورؤية تشكيلية لمدينة كاملة، وأكّدت أنني أبحث في منطقة مرتبطة بالتراث والحضارات القديمة وأصول الفكر المصري بمقوماته كافة، واستمريت في التجربة حتى الآن. لذلك نجد في معرضي الأخير بعض أعمال معرض «العمارة بأيدي النحاتين»، ولكن أعدت صياغتها طبقاً لمستوى الرؤية، لأن معظمها كان يأتي تحت مستوى النظر، أما في معرض «ذاكرة الأرض» فنشاهده من مستوى أعلى، إذ قمت بمعالجات بسيطة تصنع نوعاً من قيم التشكيل للكتلة في مستوى الرؤية الأخير. كذلك أنتجت بعض الأعمال في الاتجاه نفسه بتنوع الشكل، ولكن بمضمون واحد يتمثّل في استدعاء قيم التراث المصري القديم بشكل أو بآخر وبأسلوب يتسم إلى حد كبير بالتبسيط ونقاء السطح وتأكيد التنوع الملمسي واللوني وإظهار الإيقاع المتناغم بين السطح الصامت أو المشغول بملمس الكتابات، فالملمس بالنسبة إلي لم يصبح مجرد ملمس، بل ثمة رموز مرتبطة بموضوعات معينة ومقولات أقصد وضعها للتعبير عن فكرة معينة، ومرتبطة أيضاً بتصميم العمل نفسه.

نلحظ وجود البعد الصوفي في الأعمال. ما السبب؟

تأثرت إلى حد كبير بقيم تشكيل فن النحت المصري القديم، حتى أن العمارة بكيانها ومضمونها أكبر من أن يتحدث عنها الفنان أو يقول إنه يحاكيها. ولكن ربما أستدعيها هي والقيم التشكيلية الموجودة في حقبة بعينها، وأحاول إعادة صياغتها برؤية معاصرة. مثلاً، تأثرت بحجر رشيد الذي لم أره من الناحية التاريخية، بل تتلخّص رؤيتي له في كونه مجموعة من الكتابات والرموز، ولفتني تنوع الإيقاع على سطحه سواء اللوني أو الملمسي، فاستدعيت ذلك كله في أعمالي.

النحت المصري القديم فن قمة في الصوفية، كذلك التعبير الإنساني الموجود في التمثال أو عمارة المعبد، حيث أستشعر بأن تمثال المصري القديم ترجم في لحظة فيها استمرارية، لحظة الشهيق والنظرة إلى الأفق البعيد. ركّز الفنان المصري القديم على هذه النظرة، وشغلتني معادلة سكون الحركة وثبوتها فيما تحاول أن تسمو بحالة تعبيرية ساكنة. لذلك أشعر عند عرض بعض الأعمال بضرورة أن يكون الجو المحيط أخذ الحالة نفسها، أي أنني أستشعر البعد الصوفي أثناء تنفيذ العمل وأثناء العرض، وأفضل أن أعطيه حالة الإضاءة التي تؤكده.

طفرة نحتية

صنع جيلك بصمة في النحت، فما سر هذه الطفرة وما الرابط بينكم؟

أعود إلى الفترة بين 1990 و1996 حينما قمت بمحاولات في نحت الغرانيت بأدوات تقليدية جداً، إذ لم تكن أدوات النحت على الغرانيت المطلوبة منتشرة آنذاك. ولكن لما كنت تتلمذت على يد الفنان الراحل محمود موسي، وهو مدرسة تشكيلية في نحت الحجر في الإسكندرية، فتعلمت منه تقنيات عدة مع الراحل عبد البديع عبد الحي.

لم تتوافر أدوات حديثة إلى أن بدأ «سمبوزيوم أسوان» عام 1996، وكان بداية انطلاق جيل كامل، وراح النحات أدم حنين ومعه صلاح حماد وخالد زكي ومجموعة من أبناء جيلي يتدربون في هذا المجال، وكنت أتابع رسالة الماجستير عن «الغرانيت كوسيط تشكيلي في فن النحت»، وكنت مهتماً بالخامة وأنجزت فيها بعض التجارب اليدوية البحتة. قبل السمبوزيوم كانت التجارب في مجال نحت الغرانيت طلسماً، ولكن مع مجيئه بتقنيات حديثة حدثت طفرة لأنه جمع بين فنانين من أنحاء العالم، لدى كل منهم تقنية مختلفة عن تقنية الآخر. من ثم، كان مهماً أن نكتسب ونتبادل الخبرات. هكذا استفاد هذا الجيل من مجموعة الخبرات التي انتقلت من دول أوروبا والعالم إلى مصر بسبب هذا السمبوزيوم الذي أنتج بين 1996 – 2017 جيلاً كاملاً ومتنوعاً.

جيل التسعينيات وما بعده ربما هو الجيل الذي صنع طفرة في مصر باعتباره اكتسب الخبرة من السمبوزيوم ومن تجاربهالشخصية ومن سفره إلى الخارج والمشاركة في سمبوزيومات دولية أكدت لديه هذه الخبرة. من ثم، أثّر وتأثّر وأصبح من ضمن الأجيال المؤثرة في جيل الشباب.

سطور

الفنان سعيد بدر أستاذ النحت في كلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، وهو عضو جماعة الفنانين والكتاب في أتيليه الإسكندرية.

نظّم ملتقيات دولية عدة في مصر والخارج: إيطاليا، وسردينيا، وإسبانيا، وألمانيا، والبرتغال، ولبنان، والبرازيل، وتركيا، ومصر.

كذلك قدَّم معارض تشكيلية عدة في الأكاديمية المصرية للفنون بروما، وفي مكتبة مارينادي بمدينة كرارة بإيطاليا، وفي قاعة حورس بالمركز الثقافي المصري بروما، وفي مركز الإبداع بالإسكندرية، وفي قاعة «خان المغربي» بالزمالك، ومعرض «مقام» ضمن فعاليات مشروع العام الأوروبي للحوار الثقافي النمسا، ومعرض في قاعة سفرخان، ومعرض في مركز الجزيرة للفنون، وأخيراً «ذاكرة الأرض» في غاليري ضي بالمهندسين.

كذلك حصد جوائز دولية عدة من بينها الجائزة الأولى لنحت الأحجار في مسابقة محافظة كرارة لنحت الأحجار، والجائزة الثانية في سمبوزيوم النحت الدولي للغرانيت في إسبانيا.