"حيل الحياة" مجموعة قصصية للكاتبة الطبيبة رحاب إبراهيم، ولها من قبلها ثلاث مجموعات قصصية، شباك متحرك، وبنت عمرها عشر دقائق، وأوطان عابرة.

حينما انتهيت من قراءتها شعرت باختلافها عن جيلها، كتابتها تعكس فكراً ورؤية للواقع والأحداث مختلفة وذات تعبير لا يشبه أحدا، أقصد هذه المجموعة القصصية التي قرأتها، ولا أدري عما سبقها من مجاميعها الأخرى، لاسيما قصصها الست الأولى، فقد توقفت عندها كثيرا لأني شعرت بفكر ورؤية جديدة تمام الجدة لم يحاكِها كاتب آخر على حد اطلاعي سواء من جيلها أو ما بعده، لها قدرة تخيل غريبة تحول الواقع إلى ضباب شبحي فانتازي، نظرتها العميقة إلى وقائع الحياة وسبرها حتى نخاعها للوصول إلى المعنى المجرد منها.

Ad

قصصها هي حكايات من حولها أي واقعهم، لكنها حولت القصص إلى عالم "الفيري تيل" أو قصص الجنيات، الشخصيات فيها تتحول إلى أرواح هائمة شبحية شفافة، مع أنهم أناس حقيقيون، لكن كيف رأى واقعهم عقلها الخلاق، فهم شخوص أغلبها نساء لم يعشن حياتهن بمعنى حقيقي فقد كن على هامشها، يحلمن يتمنين أن ينغمرن فيها، لكن ليس لهن من واقعهن إلا الظلال المهمشة المَمحُوّة في الإهمال والنسيان۔

قصة "أبناء كيوبيد" تتخيل أنهم جيش منظم بقامات قصيرة وأجساد داكنة يعملون على شغل الناس بالحب بنظرة وطريقة ساخرة من واقع الحب، فهم يكرهون العشاق الصغار لأنهم يصدقون مشاعر الحب، ويفضلون العشاق الأكبر سنا لأنهم يغشون في مشاعرهم الحقيقة، وهذا مقتبس منها: "حينها يصبح أبناء كيوبيد جاهزين للعمل الذي يحبونه كثيرا، يلمون كلمات الحب المتناثرة على الأرض، يعيدون تلميعها جيدا وإصلاح ما قد تلف من حوافها، يعيدونها كالجديدة تماما فلا يستطيع أي خبير في الحب تحديد عدد مرات استهلاكها، ثم يقذفون بها لمحبين جدد، وهم يجمعون كذلك القبلات، تلك التي لم تتجاوز الشفتين، يرشونها بالعطور المغرية وربما بعض السكر ليعاد لصقها على الشفاه، هم يمارسون عملهم هذا باستمتاع شديد، ويسمونه فيما بينهم بإعادة تصنيع العلك، لكنهم لا يبوحون بهذا الاسم أمام العشاق كي لا ينفرونهم منهم".

قصة "داء الشبحية"البنت يلازمها شعور بأن الآخرين لا يرونها، وهي لا تقصد أنها شبح لكن شعورها بقلة القيمة وبالتهميش وعدم اهتمامهم بها يمنحها هذا الإحساس، ومن هذه النقطة تتطور القصة الأكثر من رائعة، قمة في إنسانيتها ونسيجها، قصة تنافس بها المنجز العالمي خاصة عندما تحكي عن جدتها، وإن داء الشبحية هذا جاءها منها، فالجدة أصابها داء الشبحية بعد عامها الثلاثين، وكانت قد أنجبت أولادها كلهم، هذا مقتطف رائع منها: "بدأ نصفها الأسفل في الاختفاء تدريجيا، وعزا جدي ذلك لشراهتها في التدخين، رافضاً وضع أي عوامل وراثية، في السنة الأخيرة تحولت جدتي لعينين فقط تجوبان البيت، وتفزعان الأطفال".

الصورة السريالية الرهيبة تتم حين انطفأت العين الثانية أخيرا، كان قد تزوج الجد من زوجته الثانية، قمة في التصوير وإخراج المعنى للجدة التي باتت بعد الإنجاب كوماً مهملاً شبحياً انتهت صلاحيته ولم يعد له قيمة، الشعور بعدم الأهمية والتضاؤل والانسحاب من الوجود حينما لا يبقى للمرء وجود ويبقى على هامش الحياة، يغيب ويدخل في غياب النسيان حتى يتحول وجوده إلى شبحي.

قصة "الجريمة الكاملة" تحكي عن فتاة تحلم أن يحبها صديقها، لكن هذا الأمر لا يتم، ولا أدري لماذا أغلب القصص العربية والمصرية بالذات فيها نساء يتعطشن إلى الحب ولا يجدنه في حياتهن، حتى وإن كن متزوجات فهن يعانين الجوع العاطفي.

هذه القصة مكتوبة بسخرية رائعة، فيها تلتقي الفتاة بموعد مع صديقها وهذا مقتطف منها: "تذكرت أن في حقيبتي كلمة (أحبك) لم أستخدمها من زمن، وبدأ الصدأ يعلوها، أخرجتها برفق دون أن يشعر، مسحتها بمفرش الطاولة ثم وضعتها أمامه بجوار الكأس، تناولها بنفس البساطة الاعتيادية، أخرج أوراقه، أخرجت أوراقي، وبدأنا اللعب، لم أرَ ورقه، لكني خمنت أنه مليء بالجواكر والبنات، أوراقي معظمها كانت شيوخاً تدعي الحكمة".

ليس المهم القصص، ولكن كيف نراها هو المهم، عقل الكاتب كيف يراها ويفسرها ويمنحها معنى مختلفاً عن واقعها هو المهم.

رحاب إبراهيم تفردت بهذه الملكة في رؤية الواقع وتفسيره بطريقة مبهرة، ليس لها مثيل بين الكتاب.

قصص ممتعة تأسر العقل والروح والقلب.