كانت ولا تزال الرتب الدينية والولاية والمشيخة والوظائف والعلوم المتعلقة بها جميعاً حكراً على الرجل، منذ ظهور الأديان. وظلت المرأة إبان هذه الهيمنة المطلقة بمعزل عن هذا الزخم، لأسباب بيولوجية واجتماعية وثقافية معروفة. ولم يتبقَ لها من هامش تعبّر به عن تجلياتها الإيمانية والروحية غير هامش التصوف، ثم هامش ما اختزنته الذاكرة الشعبية ونسبته للمتصوفات من كرامات وقداسة وقصص أسطورية حول قدراتهن على شفاء الجسد والروح.

حول موضوع "الدين بصيغة المؤنث" يضعنا الكاتب رحّال بوبريك في مواجهة هذا الميراث الديني الأنثوي الذي شكّل ظاهرة تاريخية تستحق التأمل، واختار له عنواناً مهادناً وهو "بركة النساء". والكاتب لم يقف عند حدود السرد لسير المتصوفات في كتب المناقب المغاربية، وإنما خطا خطوات أخرى نحو التحليل والتعليل مستهدياً بفهمه لشخصية مجتمعه وعمقه الإنساني والروحي.

Ad

يقف الكاتب في البدء عند معوقات القداسة الدينية لدى المرأة، منها الحيض وارتباطه بالنجاسة والدنس، ومنها ارتباط جسدها بمفهوم الفتنة والغواية، ومحاولات المرأة المتصوفة تجاوز هذه المعوقات كتجنب الزواج والتخلص من علامات الجمال بإنهاك الجسد بالتقشف وخشونة الثياب ورهق العبادة والصوم. ويبدو أن المرأة تظل مدركة – وإن بطريقة غير واعية - أن هذه الممارسات إلى جانب بعدها الإيماني والروحي، هي من الوسائل الناجعة للتخفف من تسلط المجتمع وقهره وضيق فسح الحرية أمامها. فاختيار عدم الزواج هو لون من التخلص من أعباء الخدمة وسطوة الرجل، ولكن بصورة مقبولة. أما حلقات الذكر والجذب فهي فرصة للتعبير عن المكبوتات بالرقص والموسيقى، في محاولة لتحرير الجسد من الضغوطات الاجتماعية والانطلاق به على سجيته الحرة دون أن يصاحب ذلك نقد أو زجر.

تأتي مسألة الكرامات لدى المتصوفات كتفريع آخر مهم في هذا المضمار، بل غدا حقلاً للتنافس مع الرجال، الذي غالباً ما تنال به المرأة قصب السبق. وتفسير ذلك أن المرأة تقبل على المرأة فيما يتعلق بشؤونها وشجونها، وتستسهل معها البوح والكشف عن عللها الجسدية والنفسية رغبة في الاستشارة أو الاستشفاء، الأمر الذي قد يتعسّر مع الرجل. والكرامة في المفهوم الشعبي تعني امتلاك قدرات مميزة في الاستبصار والتنبؤ، أو قدرات خارقة على الشفاء وجذب الحظ وفك السحر وتحقيق المراد في أمور الزواج والانجاب والرزق. وقد يصل الامر إلى طلب تحكيمهن في النزاعات القبلية، أو استشارتهن في الحروب والغزوات أو أي أدوار سياسية مشابهة. وصاحبة الكرامة ليس بالضرورة أن تكون امرأة صالحة فقط، وإنما يمكن أن تنسحب صفة الكرامة على المجنونات والمجذوبات ومن سقط عنهن التكليف لعته أو عاهة عقلية. وهؤلاء عادة ما يتبرك بهن الناس في حياتهن، وقد تستمر القداسة والبركة حتى بعد وفاتهن، فتتحول قبورهن إلى أضرحة تزار لنيل البركة وقضاء الحاجات!

في سبيل توثيق هذا اللون من (الإيمان الشعبي) يورد الكاتب سير مجموعة من المتصوفات والمجذوبات، للتعريف بقصصهن وما حيك حول حياتهن من أساطير وروايات، مستعيناً بذلك بما جاء في كتب المناقب أو دراسات علم الاجتماع والأنثروبولوجي. وفي تعريفه للإيمان الشعبي يذهب المؤلف إلى أنه إيمان العامة من الناس الذين لم يجدوا أنفسهم في المؤسسات الدينية التي يمثلها الفقهاء والعلماء، فتمثلوا هذا اللون من الإسلام الشعبي في تلقائيته وبساطته وتعلقه بالأسطورة والخرافة. ويرى أن المدينة كانت قلعة للعلم والمعرفة مقابل القرية والبادية التي تمثل الإسلام الطرقي الصوفي، أي إسلام شعبي قريب من سكان معظمهم أميين لا يجدون أنفسهم في إسلام المؤسسات البعيدة عنهم – المدن الحضرية – التي لا تلبي متطلباتهم الروحية والعملية الآنية أو تجيب على أسئلتهم الوجودية.

في نهاية المطاف يقف الكاتب عند شخصية "عائشة قنديشة" التي كانت نموذجاً للعارفة / الكاهنة / الساحرة بامتياز في تاريخ شمال إفريقيا. وقد منحتها سلطتها الروحية مكانة سياسية أهلتها لقيادة القبائل الأمازيغية ضد التدخل الأجنبي. ومن خلال سرد ما علق بها من حكايات أجدها تصلح بطلة متفردة لرواية مؤثرة، وخاصة أنها غدت أسطورة مخترقة للأزمنة والأمكنة، فهي كما يقول المؤلف شخصية تتأرجح في الذاكرة والمخيال الشعبي بين ولية وجنية شريرة، فهي حاضرة لتخويف الأطفال واستدراج الرجال بصورة امرأة فاتنة ولكن بأرجل حيوان. إنها الساحرة والغاوية والولية التي تقدسها بعض الطرق وتخصص لها مقاماً للزيارة والتضرع، حباً بها أو خوفاً من شرها، فقد جمعت النقيضين وتربعت على عرش أسطورة لا تموت.