لا يمكن لأي منصف أن يدافع عن حالة الإبداع المصرية الراهنة، أو أن يتفهم مجمل الممارسات الإعلامية السائدة؛ إذ يبدو أن تراجعاً كبيراً يضرب المجالين الفني والإعلامي، ويبعدهما بوضوح عن المقاصد المتوخاة من ممارسة الأنشطة الإبداعية والإعلامية.

يعاني المجالان الفني والإعلامي علامات تردٍ مطردٍ، بسبب حالة التوتر العمومي التي تعيشها البلاد في مواجهة التحدي الإرهابي، فضلاً عن أزمة اقتصادية، وغلاء أسعار، وتفاقم معدلات الأمية، وتراجع التعليم، وانخفاض مستوى الوعي الثقافي، مما انعكس بوضوح على حالة التلقي، وهي حالة باتت تغري بالاستسهال والابتذال والانقطاع عن معايير الجودة وآليات الاحتراف.

Ad

تلك حقيقة يجب أن نعترف بها، لكن الخطير والكارثي في آن واحد أن نعتبر أن فرض الوصاية على الإبداع والإعلام، والتدخل من خلال السلطة الإدارية، أو البرلمانية، أو الأدوات القانونية، أو الضغط والترويع، من أجل إيقاف ممارسات إعلامية وفنية بعينها، أو إجبارها على اتخاذ مسارات معينة، يمكن أن ينجح أو يثمر في هذا العصر، الذي عرف انفجاراً معلوماتياً غير مسبوق، ونمطاً اتصالياً فريداً في انفتاحه، يكاد يكون من الصعب جداً السيطرة عليه أو إخضاعه.

وكما كانت العادة في السنوات الفائتة، فإن موسم الدراما الرمضانية شهد الاكتظاظ والتدافع غير المدروس نفسه، كما عانى أنماط أداء رديئة، وعمليات إنتاج لا تتبع المعايير الاحترافية، وممارسات تُخضع المحتوى الإبداعي لاعتبارات إعلانية أو رغبات النجوم، بشكل يحرف العمل الفني ويفقده اتزانه. وكالعادة أيضاً شهد هذا الموسم عدداً من الهجمات على صناعة الدراما، وهي هجمات لم تهتم بهذا التردي الفني والإنتاجي بقدر ما اهتمت بهواجس فئوية، أو دعاوى تتعلق بالفضيلة، أو خلط مريع إزاء الاعتبارات التي تقوم عليها صناعة المسلسلات باعتبارها في الأساس صناعة.

وبموازاة هذه الهجمات الحادة على الدراما تكررت الأزمة نفسها التي تصنعها برامج المقالب، وهي البرامج التي تتلقى كل عام سيلاً هائلاً من الانتقادات والبلاغات، التي لا تفعل شيئاً أكثر من زيادة شعبيتها وتعزيز رواجها وتداول أخبارها وقصصها، بما يعمق تأثيرها ونفاذها.

ومن ذلك، أن بعض البرلمانيين طالبوا بوقف عرض أحد أهم تلك البرامج، كما تقدم برلماني بطلب إحاطة بخصوص مسلسلات رمضان و"تجاوزاتها"، فضلاً عن حملة إعلامية كبيرة تشترك فيها عناصر عدة تتحدث عن "تكلفة المسلسلات التي بلغت مليارات"، ويطلب بعض المنخرطين فيها أن تُخصص تلك الأموال الطائلة للمشروعات التنموية أو مساعدة المحتاجين.

إن ذلك أمر ينطوي على خلط كبير، ويمثل مقاربة هزلية بكل المقاييس، لأن من يطرح هذا الخيار لا يعي ببساطة أن الدراما صناعة، وبوصفها صناعة فإن منتجيها يخصصون أموالاً للإنفاق عليها، بغرض الاستثمار، وأن تلك الأموال عادة ما تعود بالأرباح عليهم، كما أنها تسهم بشكل فعال في تحريك عجلة الاقتصاد، لأنها تتيح الفرصة لعرض الإعلانات، التي هي ضرورة من ضرورات الانتعاش الاقتصادي واكتمال حلقة الإنتاج.

تغضب المضيفات الجويات من مسلسل "أرض جو"، ويقدم محامون بلاغاً ضد مسلسل "كلبش" بداعي أنه "نال من صورة المحامي"، وتثير هيئات نسوية اعتراضات لأن صورة المرأة تقدم بشكل "مهين"، ويتم منع إعلان لإحدى الجمعيات الخيرية لأنه "لا يخدم صورة جهود الحكومة في عملية التنمية".

إن تلك الدعاوى والممارسات كلها تمثل تقييداً لحرية الإعلام والإعلان والإبداع، وتستخدم ذرائع واهية، وتستند إلى اعتبارات متهافتة، وستكون انعكاساتها خطيرة، دون أن يعني هذا بالطبع أن حالة الإعلام والفن في مصر بخير.

يجب ألا تكون حرية الإعلام وحرية الإبداع موضوعاً للمساومة، ويجب ألا نبالغ في وضع قيود في هذا المجال، لأن التدخلات بعدها لن تتوقف، وسنجد أنفسنا نسأل يوماً: "هل يمكن أن تظهر امرأة على الشاشة؟"، أو "ولماذا لا يجري الحوار مذيع رجل بدلاً من مذيعة امرأة؟".

بفتح الباب أمام هذه الهجمات والإجراءات المقيدة سيمكن لأي فئة أو طائفة أو جماعة ضغط أن تفرض على المنتجين والكتاب والمبدعين ما يكتبون، وأن تمنعهم من تناول قضايا مجتمعية بعينها بغرض حماية الصورة أو حماية الأخلاق أو حماية الأمن القومي.

بعض المجتمعات اجتهدت لكي تضع مقاييس تُمَكِّنها من اتخاذ قرارات في شأن أنماط أداء إعلامي أو إبداعي مثيرة للجدل، باعتبار أن حرية الرأي والتعبير لا تعني الموافقة على كل شيء يُكتب أو يُقال أو يُصور، لأن هناك خطوطاً لا يمكن انتهاكها.

ومن أهم ما توصلت إليه تلك المجتمعات أن حرية الرأي والتعبير مصونة ولا تمس، خصوصاً في المجال الفني والإبداعي، لكنها يجب أن تقيد عندما تثير الكراهية، أو تحرض على العنف، أو تطعن في المعتقدات المقدسة، أو تشجع التمييز، أو تنال من الحقوق الثابتة للآخرين.

لقد حاولت المحكمة الأميركية العليا أن ترسي معياراً للتعامل مع "حرية الإبداع" في عام 1973، فرأت أن تستند إلى صيغة طورها أحد المفكرين، وهي صيغة تمت تسميتها "مقياس ميلر" Miller Test، وهو المقياس الذي يجيز أي عمل إبداعي أو إعلامي إذا استوفى شروطاً ثلاثة؛ هي: عدم خرق القوانين النافذة، وتأييد أو موافقة قطاع مؤثر من الجمهور، والانطواء على جهد فني وإبداعي خاص.

علينا أن نحاكم الأعمال الإعلامية والفنية والأدبية بمثل تلك المعايير لا بمعايير سياسية وهواجس وتأويلات أخلاقية وصراعات مصالح.

يجب التفرقة بين شخص تحدث من منبر إعلامي، فأثار الكراهية، أو طعن في المعتقدات المقدسة لدى قطاع من المواطنين، أو حرض على العنف، أو طعن في الأعراض، وبين من طرح فكرة درامية تصور انحرافاً لدى بعض من يعملون بمهنة معينة، أو عرض نموذجاً إنسانياً منحرفاً من دون تعميم.

تحفل الأنشطة الإبداعية والإعلامية المصرية بالكثير من جوانب العوار والخلل، مما يستلزم جهوداً رسمية ومجتمعية منسقة لإخراجها من عثرتها وتطويرها وحملها على اعتماد أسس أكثر احترافية وأكثر إخلاصاً لقيم الإبداع؛ وهي عملية صعبة ومعقدة لا يخدمها القمع والمصادرة والتقييد.

* كاتب مصري