في لقاء تلفزيوني للبدر، حاوره فيه الصديق الشاعر صالح الشادي قال البدر في إجابة على سؤال الشادي فيما إذا كان المحفز لكتابة القصيدة الحدث أم الحكاية أم الفكرة، وكانت إجابة البدر عن هذا السؤال مذهلة تعكس رؤية عميقة للشعر من شاعر حقيقي تنمو في داخله الكلمات وتتكاثر كأعشاب البحر والمحار والحدائق المرجانية والملح كجزء طبيعي من بحور تتجدّل في تكوينه، قال البدر فيما معناه إن الشاعر يمارس حياته اليومية باحثاً عما يمكنه أن يصنع منه شعرا، كمن يتبضّع وينتقي من تفاصيل يومه ما يظن أنه قادر على إعادة صياغته وتجميعه ربما مع تفاصيل أخرى لينشئ من ذلك كله قصيدة ترضي شغفه الشعري، وكان ملخص إجابة البدر أن القصيدة ليست تمجيداً لحدث ما أو حكاية أو فكرة أو حتى حبيبة، وإنما تلك "أدوات" يحاول الشاعر بواسطتها تمجيد القصيدة، بغض النظر عن عظم هذه الأداة وأهميتها، فأهميتها وقيمتها تكمن فقط في قدرتها على أن تتشكل بين أصابع الشاعر نسيجاً يصنع منه الشاعر شرايين تجري فيها الكلمات لينبض قلب قصيدة، فهذه الأدوات يكون جمالها في مدى إمكانية توظيفها لخدمة الشعر وليس العكس!

نعم إن الشاعر الحقيقي في بحث دائم عن قصيدته ولا ينتظر بحثها عنه، يبحث عنها في فكرة، في كلمة منسية في الذاكرة، في جملة عابرة لا تحرك ذرة في الهواء ولكنها قد تفجر ينبوعا صافيا في وجدانه، في عين تسكنها نوايا شمس أشرقت في الأمس وترغب في تكرار فعلتها، أو عين تداري نجومها خلف ستائر الظلام المواربة، يبحث الشاعر عن قصيدته في قنينة عطر جف ماؤها ومازال طيبها يتدفق، أو خلف جدار لم يبح بسرّ، أو في أصابع متشابكة لكفين ليسا لذات الشخص، وفي قصة ربما لا تعنيه، أو في جرح ينزّ أو جرح يأبى أن ينزف فيحاول الشاعر استفزازه ليفيض، أو في خطوة غيمة قد تلقي بحملها بين يديه أو قد لا تفعل، القصيدة طريدة الشاعر الأبدية، وقد يحدث أحياناً أن تنقلب الأدوار بينهما لخلق نوع من المتعة والإثارة ليس إلا، ولكن الأصل في أن القصيدة طريدة الشاعر وغايته وغوايته، يبقى الشاعر بعيون قلب مفتوحة تكاد لا تغمض حتى لا تفوته قصيدته، يتربّص لها بكل حبائل الحب والحبر، ليس الحدث هو المهم فرب حدث عظيم يمر دون أن يضيء قنديلا في مخيلة الشاعر، وكم من حدث عادي جداً مهمل يولّد أقمارا وشموسا في الخيال ليترك لنا قصيدة تفترشها ذاكرتنا وتستوطن قلوبنا طول العمر، ورب حكاية على عظمتها لا تصلح أن تكون فاتحة نص يبتدئ الشعر فيها بقراءة آيته، وليست الحبيبة أيضا هي مفتاح السر، فكم من حبيبة مرت على أصابع الشعر دون أن تترك أثراً لجمر ولا ماء، السر في تلك الصاعقة القدسية التي تسقط ليس من السماء ولكن من قلب الشاعر على لحظة ما لتحيلها إلى قصيدة شعر!
Ad