يذكر أرسطو في مقدمة كتابه "الميتافيزيقا" أن الناس جميعهم لديهم الرغبة في المعرفة، أو بعبارة أدق، فضول المعرفة، ويسعون على الدوام إلى اقتناص معنى الحياة والاستزادة من أخبارها، ومن اللافت أن عصارة الحياة ومعناها غالباً ما يتجليان في حياة أفراد بعينهم خبروا صنوفا متنوعة من مصاعب العيش ومآزق الدنيا.

وذلك ما يجعل من التراجم والسيرة الذاتية مصدراً لا ينضب لإشباع ذلك الفضول، وتلك الرغبة في المعرفة، فبعض السير تغدو مع الزمن نموذجاً لكيفية العيش في الدنيا ومرجعاً تقتدي به الأجيال المقبلة، على النحو الذي تكتسب به تراجم العظماء والشخصيات التاريخية مكانة خاصة.

Ad

غير أن الأمر المهم في باب السيرة والسيرة الذاتية يتمثل في أنها لم تعد حكرا على تلك الشخصيات، بل أصبحت تروي حياة أفراد تطويهم هوامش المجتمع وطبقاته السفلى داخله.

وهذا الطراز الأخير تحتكره المجتمعات الغربية، وغالباً ما يقف وراءه ميل معرفي إلى تفسير الشروط التي يتحرك وفقاً لها البشر في بيئة معينة، بحيث يكون نص السيرة الذاتية قابلاً لاستنباط نظرية أو منهج ما أو للتدليل عليهما، وينتصب نموذجاً على ذلك ما قام به الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت ميشيل فوكو حين عثر على اعترافات ابن فلاح فرنسي يدعى بيير ريفيير من نورماندي، كان قد قتل أمه وأخته وأخاه انتقاماً لأبيه، ودوّن اعترافه كاملاً، موضحاً أن والده قد كان ضحية لتسلط أمه واضطهادها، إذ كانت تتمتع بالقوة وتمارسها، على النحو الذي أشار إليه فوكو سابقاً، بعلاقات القوة والقهر الاجتماعي.

وفي هذا كله، مفاتيح متعددة لفهم حركة المجتمع والمساقات التي تتحكم في وجهته ومصايره، ذاك أن المحبوسين في هوامش المجتمع وعلى أطرافه، وبما يمثلونه من نقيض للقوة الفائضة، هم الدافع الأقوى نحو الارتقاء أو الانحطاط بأكثر أشكاله وضوحاً.

وربما كان هؤلاء الأكثر عرضة لنزعات النفي والإلغاء المطلقين، فعند شخوصهم تتهدم اللياقات والتحضر والمدنية، وهو ميل يزيده استشراء الفساد والإحباط الاقتصادي قسوة وعنجهية، وما بين سلوك كهذا وآخر يتخذ من أهل الهوامش ملهاة لحرق الزمن الفارغ من أي معان يذوي المتن ويغدو مسخا قميئا، لا يفرد ذراعيه إلا للعصابيين وشذاذ الآفاق.