في سبتمبر 1970، قطع جمال عبدالناصر إجازته في مدينة مطروح الساحلية، وكانت عطلة شبه إجبارية فرضها عليه الأطباء، وعاد كي يسعى بكل ما يملك إلى حقن الدماء العربية، فدعا إلى انعقاد عاجل لمؤتمر القمة العربية، وفي خلال 24 ساعة تجمع الملوك والرؤساء العرب في القاهرة حول الرئيس المصري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

قرر الملوك والرؤساء العرب تشكيل لجنة على مستوى القمة لتقصي حقائق ما يجري في الأردن، وتشكلت من رئيس السودان الرئيس جعفر نميري، ومعه حسين الشافعي من مصر، والباهي الأدغم رئيس وزراء تونس، والفريق محمد أحمد صادق رئيس الأركان المصري، وهم الذين استطاعوا إنقاذ ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وأحضروه من الأردن حيث كان محاصراً إلى القاهرة ليتمكن من حضور جلسات القمة ممثلاً فلسطين.

Ad

وما زلت أذكر أن الرئيس عبدالناصر ظلّ يردّد خلال أزمة «أيلول الأسود» طوال يومي 27 و28 سبتمبر: «إننا في سباق مع الموت»، ولعله لم يكن يدرك حجم الحقيقة المرة في هذا التعبير الذي قاله قبيل رحيله المفاجئ، فلم يكن السباق مع الموت بين الفلسطينيين وبين الأردنيين فقط، وإنما كان بين عبدالناصر شخصياً وبين الموت، كأنه كان يسابق ساعاته الأخيرة كي لا تفلت منه قبل أن يتمكن من أن ينهي آخر مهمة قدمها خدمةً لأمته العربية قبل أن يختطفه الموت ويرحل.

وظهرت جريدة «الأهرام» في صباح ذلك اليوم الحزين، وعلى صدر صفحتها الأولى العناوين الرئيسة التالية: «التوصل إلى اتفاق، بعد يوم من العمل المركز توصل الرؤساء إلى اتفاق بين الأردن والمقاومة، الرؤساء وقعوا الاتفاق مساء أمس واشترك معهم الملك حسين وياسر عرفات»، وانفردت «الأهرام» بنشر آخر توقيع للرئيس عبدالناصر مع توقيعات الملوك والرؤساء.

كانت هذه العناوين الرئيسة التي تصدرت صفحة «الأهرام» الأولى هي نتائج جهد جبار بذله الرئيس عبدا لناصر بالمقاييس كافة فوق طاقة البشر، رغم تحذيرات الأطباء بل ورغم فزعهم من مواصلة مثل هذا الجهد طوال أسبوع كامل، بدأ في 12 سبتمبر 1970، حيث انعقد مؤتمر القمة العربية الأخيرة في ظل وجود عبدالناصر في فندق هيلتون بالقاهرة، وانتهى يوم 28 نفسه بتوديعه أمير الكويت في مطار القاهرة.

وكان عبدالناصر نجح في تحقيق أهدافه في هذا المؤتمر، وكان الهدف الأول بالطبع وقف سفك الدماء في الأردن، والهدف الثاني يتمثل في الحفاظ على قوة منظمة التحرير الفلسطينية وضمان استمرار عملها تجسيداً لنضال الشعب الفلسطيني، والهدف الثالث الخروج من هذا الوضع الخطير الذي تفجر مع حوادث سبتمبر 1970، وسمي عن حق «أيلول الأسود»، بتجميع القوى العربية للعمل معاً على تحرير الأراضي العربية المحتلة ومواجهة إسرائيل في ظل وفاق وتضامن عربيين يتيحان الظروف المناسبة لكسب معركة التحرير.

وكان الملك حسين وصل إلى القاهرة بعدما هيأ الرئيس عبدالناصر الأجواء داخل المؤتمر لتقبل حضوره، حيث كانت غالبية الحاضرين في حالة ثورة شديدة على تصرفات السلطات الأردنية وفعلاً وصل الملك صباح يوم 27 واستقبله عبدالناصر في المطار، وصحبه إلى فندق هيلتون، وبعدها توصل المؤتمر إلى الاتفاق، وانشغل عبدالناصر من صباح 28 سبتمبر في توديع الرؤساء والملوك العرب، واحداً بعد الآخر.

وعلى أرض المطار، وبينما كان الرئيس ينتظر تحرك طائرة أمير دولة الكويت، شعر بألم في صدره، وراح العرق يتصبب منه بغزارة، فطلب سيارته إلى حيث كان يقف لأنه لا يستطيع أن يسير بنفسه إليها كما كان يفعل عادة.

ومع اقتراب عقارب ساعة يوم 28 سبتمبر 1970 من الخامسة والنصف مساء اتصل بي الأخ سامي شرف وزير شؤون الرئاسة هاتفياً، وقال باقتضاب شديد:

ـ سأقلك معي في السيارة لأننا سنذهب إلى «الريس».

اللحظات الأخيرة

جاء سامي واستقللت معه سيارته التي كان يقودها بنفسه، ولست أعرف ما الذي جعلنا لا نتحدث عن أسباب الزيارة غير المتوقعة وكنت، طوال الطريق، أعد نفسي لأي سؤال أو طلبات ربما يريد «الريس» الإجابة عنها أو الاستفسار بخصوصها، لا سيما أن أغسطس كان شهد مناقشات وتعليمات منه في لقاءات مهمة وحاسمة معه في الإسكندرية. وصلنا إلى منزل الريس في منشية البكري، وهناك فوجئت بالأخ فؤاد عبد الحي أحد أفراد السكرتارية الخاصة، وهو في حالة شديدة من اليأس والانهيار لم أشهدهما عليه سابقاً، ومن كلماته البسيطة عرفنا أن: «الريس تعبان جداً».

ركضنا مباشرة باتجاه السلم الداخلي وصعدنا إلى الطابق العلوي قفزاً فوق السلم لندخل إلى حجرة نوم الرئيس. كنت أول من وصل مع سامي شرف إلى حيث وجدنا الرئيس مستلقياً فوق سريره وحوله مجموعة من الأطباء، وفي الحجرة أجهزة كهربائية، وبين الأمل والرجاء والخوف من المجهول جلسنا نراقب الموقف والأطباء يحاولون بذل كل مجهود وكانوا يتدافعون حوله بالإسعافات السريعة، وراح أحدهم يدلك قلبه بينما استخدم طبيب آخر الصدمة الكهربائية.

في هذه الأثناء وصل كل من حسين الشافعي، وعلى صبري، ومحمد حسنين هيكل، وكنت اتصلت بمنزل كل من الفريق أول محمد فوزي والأخ أمين هويدي اللذين وصلا فوراً، وانقسم الحضور بين من يدعو ومن يصلي ومن يتطلع إلى السماء راجياً، وحدث أن اهتز الجسد الكريم بسبب إحدى الصدمات الكهربائية فاستبشرنا خيراً، ولكن للأسف كان عبارة عن رد فعل الصدمة الكهربائية، ثم حان الوقت الذي ليس للبشر فيه أية قدرة على التدخل.

وكانت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تصعد روح عبدالناصر القائد والمعلم إلى بارئها نحو الساعة السادسة والربع من مساء 28 سبتمبر 1970.

ما العمل؟

وصل أنور السادات بعدما أسلم جمال عبدالناصر الروح، وعرفنا منه أنه كان خارج منزله في زيارة أسرية عندما استدعي على عجل إلى منشية البكري، ولم يكن يعلم ما حدث، وكانت زوجته برفقته مرتدية فستاناً أخضر اللون، ولم يكن ذلك مناسباً بالطبع، ولكنها لم تكن تدري بدورها ماذا جرى.

وبعدما وصل أنور السادات إلى غرفة نوم الرئيس عبدالناصر كشف الغطاء من على وجه الزعيم، وسأل سؤالاً لست أدرى حتى الآن ماذا كان يقصد به؟ وهل له معنى؟ أو لم يقصد منه أي أمر، ولست أخمن دلالته. فوجئنا به يوجه سؤاله إلى لا أحد ويقول:

ـ هل قام الأطباء بواجبهم؟

كانت الإجابة طبعاً أن الأطباء بذلوا الجهد الممكن، وبعد ذلك تقرّر أن ننزل إلى الصالون في الطابق الأول كي نجتمع ونقرر الإجابة عن سؤال كبير: ما العمل بعد عبدالناصر؟

كان اللقاء الأول الذي يتم بين هذه المجموعة في صالون منزل الرئيس عبدالناصر من دون الرجل، وكان الحاضرون خليطاً من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا وبعض الوزراء، وهم:

أنور السادات كان يشغل آنذاك منصب نائب رئيس الجمهورية وعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وحسين الشافعي كان عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وعلي صبري عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وشعراوي جمعة كان وزيراً للداخلية وأمين تنظيم الاتحاد الاشتراكي وأمين تنظيم «طليعة الاشتراكيين»، وأمين هويدي كان وزير دولة برئاسة الجمهورية، والفريق أول محمد فوزي كان القائد العام للقوات المسلحة وزير الحربية والإنتاج الحربي، وسامي شرف كان وزير شؤون رئاسة الجمهورية ومدير مكتب الرئيس للمعلومات، ومحمد حسنين هيكل كان وزيراً للإعلام ورئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير جريدة «الأهرام».

كانت أمامنا قرارات عدة مطلوبة وعاجلة وواجبة، كان علينا أولاً أن ننقل الجثمان إلى غرفة العيادة المكيفة في قصر القبة إلى حين إتمام إجراءات الجنازة، حيث يجب أن نعطي فسحة من الوقت ليتمكن زعماء العالم من المشاركة في الجنازة. وكان علينا ثانياً أن ندعو إلى اجتماع مشترك بين «اللجنة التنفيذية العليا» للاتحاد الاشتراكي وبين «مجلس الوزراء» لتقرير الخطوات التالية.

استقبال الجثمان

مساء يوم الرحيل، كانت ليلة الإسراء والمعراج، وكانت رئاسة الجمهورية تحتفل بهذه المناسبة في قصر القبة، وحين دخلنا إليه وجدنا على المنصة حسن التهامي، وزير الدولة برئاسة الجمهورية، وإلى جانبه الشيخ أحمد حسن الباقوري، وزير الأوقاف السابق، والدكتور صبري الخولي الذي عمل لفترة طويلة ممثلاً شخصياً للرئيس عبدالناصر، فضلاً عن عدد كبير من موظفي الرئاسة. وتشاء الظروف أن يدخل جثمان عبدالناصر إلى القصر وسط تصفيق الجماهير التي كانت حاضرة الاحتفال، وكانت تصفق لسبب أو لآخر، ولكنها بدت للداخلين بجثمانه وكأنها تحية غير مقصودة للعظيم صاحب هذا الجثمان.

أدخل الجثمان إلى غرفة العيادة، وفي طريق عودتنا عرف المجتمعون بوفاة عبدالناصر، فانفض الاحتفال فوراً.

كانت التعليمات صدرت بإبلاغ القيادات بضرورة الحضور إلى اجتماع مهم، وأوقفت الإذاعات والتلفزيون عن نشر البرامج العادية، وبدأت جميعها في إذاعة القرآن الكريم، وبدأ توافد الوزراء إلى قصر القبة، وكان من بينهم من جاء بملابس الميدان، وعند الساعة التاسعة والنصف تقريباً انعقد الاجتماع المشترك بين اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء في القاعة نفسها التي شهدت اجتماعات مجلس الوزراء تحت رئاسة عبدالناصر.

عندما دخل السادات إلى القاعة توجه فوراً إلى المقعد الذي كان يجلس عليه، وهو نائب رئيس الجمهورية، وترك مقعد عبدالناصر شاغراً، وبدأ الاجتماع التاريخي، وكان السؤال الملح على أذهان الجميع:

ـ كيف سنواجه الموقف بعد غياب عبدالناصر؟

كان مطلوبا من الاجتماع أن يتّخذ قرارات عدة في قضايا متنوعة، تمثّلت الأولى منها والأهم والأخطر في الوضع الدستوري، وتشكلت لجنة ضمت كلاً من الدكتور لبيب شقير رئيس مجلس الشعب، وضياء الدين داود عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي والمحامي، وحافظ بدوي عضو مجلس الشعب والقانوني البارز. كانت مهمة اللجنة دراسة الخطوات الدستورية لانتقال السلطة بعد غياب عبدالناصر.

اختيار السادات

قررت اللجنة أن المادة (110) من الدستور التي تنص على أنه في حالة استقالة الرئيس أو عجزه الدائم عن العمل أو وفاته يتولى مؤقتاً الرئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية، ثم يقرر مجلس الأمة خلو منصب رئيس الجمهورية، ويجري الاستفتاء على من يرشحه المجلس للمنصب.

حاز إعمال أحكام الدستور الإجماع، وقصدنا أن نضرب المثل للأمة العربية، وأن نقدم صورة مصر للعالم في أفضل ما يمكن. كنا نريد أن نثبت أن عبدالناصر ترك رجالاً، وأن مصر ستباشر أمورها وفق شرعية دستورية، وأنها ستقطع خط الرجعة أمام أية احتمالات تآمرية أو أفكار انقلابية قد يحلو للبعض ممارستها، والبعض هنا كان مجهولاً، وكنا آنذاك في ساعات المجهول بعينه، وكان قرارنا يتلخص في إسناد رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة إلى نائب رئيس الجمهورية أنور السادات إلى أن يصير الاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية خلال ستين يوماً كما ينص الدستور.

أثناء اجتماع اللجنة التي شكلت لدراسة الترتيبات الدستورية ظلّ الاجتماع المشترك بين اللجنة التنفيذية العليا وبين مجلس الوزراء منعقداً، وطرح أنور السادات أن يتولى الرئاسة إلى حين إزالة آثار العدوان، أو إلى حين انتهاء مدة رئاسة الرئيس عبدالناصر، وكان يتبقى منها نحو سنتين، واعترض معظم الحاضرين على الفكرة، لأنها تتنافى مع الاتجاه العام الذي ساد مناقشات الاجتماع من ضرورة إعمال أحكام الشرعية الدستورية وتفادي أية أوضاع مؤقتة.

وكانت النقطة الثانية على جدول أعمال الاجتماع المشترك كيفية إعلان الوفاة، واتفق على أن يتولى محمد حسنين هيكل كتابة بيان يلقيه أنور السادات عبر الإذاعة والتلفزيون، يعلن فيه الخبر للناس، وإلى جانب البيان طرح البعض اقتراحاً بإذاعة بيان للأمة يحدّد سياسة المرحلة المقبلة وأهدافها. وللأسف الشديد، حدثت حول هذا الاقتراح خلافات وتباينات كثيرة، فلم ير البيان النور، وكان من المقرر أن يصدر عن الاجتماع المشترك، بين اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء، ونظراً إلى هذه الخلافات والتباينات صدر عن اللجنة التنفيذية العليا منفردة.

كان الموضوع الثاني المطروح على الاجتماع المشترك يختصّ بإجراءات وترتيبات ومواعيد الجنازة، وأذكر أن الأخ حمدي عاشور، وكان وقتها وزيراً للإدارة المحلية، اقترح أن تبدأ مراسم الجنازة من الجامع الأزهر، وقلت إنه مع تقديري واحترامي للأزهر الشريف بما يحمله من مغزى ومعنى وقيمة تاريخية، إلا أنني اقترح أن تبدأ الجنازة من أمام مقر مجلس قيادة الثورة. كنت أرى أن لانطلاق جنازة جمال عبدالناصر من هذا المكان دلالته الواضحة، ويقدم رسالة للعالم كله، وهو بمنزلة إعلان استمرار الثورة واستمرار المسيرة بعد عبدالناصر.

بالإضافة إلى أن مقر مجلس قيادة الثورة قريب إلى منطقة «وسط البلد»، والطرق هناك متسعة، ويمكن أن يسير موكب الجنازة من دون توقف، ومن ناحية أمنية فإن إمكان السيطرة الأمنية على الموكب في هذه المنطقة أكبر من غيره في أي مكان آخر، خصوصاً منطقة الأزهر التي تعاني دائماً ازدحاماً شديداً، فضلاً عن أنها تضم بيوتاً متداعية عدة، ما قد يسبب اضطراباً في خط سير الجنازة.

وحدث في هذه النقطة نقاش طويل، وتوصلنا إلى إجراء معاينة على الطبيعة للأماكن المقترحة، وكنا اتفقنا على أن يذيع أنور السادات نبأ الوفاة، وأن يذهب بنفسه إلى مبنى التلفزيون، وكلِّف الفريق أول محمد فوزي ولجنة مكونة من شعراوي جمعة، وسامي شرف، وأمين هويدي، والليثي ناصف، وحسن طلعت، ومحمد أحمد، ويشارك معهم حمدي عاشور، ووجيه أباظة، تكون مهمتها الإعداد لترتيبات الجنازة وعملية الدفن، على أن تعتبر هذه اللجنة في حالة انعقاد دائم إلى حين إتمام مهمتها والانتهاء منها على خير وجه.

وأذكر أنه كان ثمة تفكير بأن يتحوّل مقر القيادة العامة مستقبلاً إلى متحف للثورة، وبذلك يصبح المثوى الأخير لجمال عبدالناصر إلى جانب متحف الثورة، وكانت ثمة جمعية دينية تقوم على إنشاء مسجد ومستشفى ودار للرعاية، وكان «الريس» رحمه الله شديد العناية بهذه الجمعية، يساعدها من ماله الخاص، ومن المال العام، وهو المسجد المدفون إلى جانبه جثمان عبدالناصر.

خروج الشعب

تقرّر أن تكون الجنازة أول أكتوبر لإعطاء فرصة أكبر لرؤساء العالم وزعمائه للمشاركة، وبدأت أيام الحزن من يوم الوفاة المصادف الاثنين 28 سبتمبر إلى الخميس أول أكتوبر عام 1970 يوم الجنازة، وكان الشعب كله خرج إلى الشوارع والميادين والساحات الشعبية، من نساء وبنات، ورجال وشباب، جاء العمال وجاء الفلاحون، يردّدون أهازيج حزن ابتكروها تلقائياً في رثاء الراحل العظيم، كانوا يرددون معاً والحزن يعتصر القلوب: «ابكي وابكي يا عروبة، على اللي بناكِ طوبة طوبة»... «يا جمال يا نور العين... سايب مصر ورايح فين».

لم يقتصر مشهد الحزن الكبير على «القاهرة»، ولا على أقاليم مصر كلها، ومدنها وقراها، بل كان المشهد نفسه يكاد يتكرّر في «حلب» و«دمشق» و«حماه»، وفي «بغداد» و«البصرة»، وفي «الكويت» وفي لبنان وفي اليمن شماله وجنوبه، كسا الحزن القلوب كافة في الأقطار العربية التي خرجت مدنها تبكي وتنتحب في أكبر وأضخم وداع شهده العالم حتى وقتها، وكان الحزن في تلك الأيام سيد الموقف من دون منازع.