Ad

يملك النهام والفنان سلمان العماري حساً فنياً مرهفاً، يمزج بين انتقاء الكلمة المغناة والقدرة على أداء اللون الغنائي الأصيل، فذائقته الفنية تجنح نحو التراث الغنائي الكويتي، فينتقي من فن الصوت أجمله، ومن الغناء القديم أعرقه، فيدندن على آلة العود أصعب الألحان، لأنه يعشق التحدي، فلا يثنيه عن مراده أي عقبات، معتمداً على قوة إصراره وصلابة عزيمته.

ويمد العماري الوصل بين جيل الرواد والجيل الحالي من خلال أداء أغنيات النجوم الكبار في الكويت والخليج، متمسكاً بالتراث الفني لهذه المنطقة، رافضاً تقديم أعمال فنية معاصرة، إذ يرى أن إعادة تقديم الأغنيات القديمة (بشكل جديد يحافظ على خصوصية هذا الإرث الفني) واجب وعرفان بالجميل للذين نهل من فنونهم وطريقة أدائهم.

في الحلقة الثالثة من حواره مع "الجريدة"، يؤكد العماري أنه ينأى بنفسه عن السباق المحموم المعني بالأجور المالية أو مضاعفة مشاركته في الحفلات الغنائية داخل الكويت وخارجها، رافضاً منع محال الكاسيت من بيع ألبوماته غير الرسمية التي تم تسجيلها من خلال الحفلات الغنائية التي أحياها، ويرى أن مؤسسات الدولة هي الأجدر بالمحافظة على حقوق الملكية الفكرية للفنانين، ويطالب نقابة الفنانين ببذل المزيد من الجهد لتقويض هذه الاختراقات.

وفي حديث عن أبرز النهامين الذين يطرب لهم، قال العماري إن "النهام سالم العلان هو الأكثر قربا منه، وأزعم أنه يتربع على عرش النهامين، ويأتي بعده بالدرجة الثانية النهام حسين بومطيع"... وفيما يلي التفاصيل:

● كيف تنظر إلى ارتفاع أجور المطربين وكثرة مشاركتهم في الحفلات، ألا يدفعك ذلك إلى الدخول ضمن هذه المنظومة؟

- أرصد هذا السباق المحموم من قبل الفنانين الشباب والفرق الشعبية في مسألة الأجور المالية وأيهما الأعلى أجراً، إضافة إلى نوعية مشاركاتهم الخارجية، وهذا التسابق لا يعنيني أبداً ولست طرفاً فيه.

لا أبحث عن مال ولا شهرة، بل أريد تقديم فن بلدي، وهذا يكفيني.

● مادمنا نتحدث عن الأجور المالية، ألبوماتك تباع في محال الكاسيت من دون علمك أو اتفاق مسبق معهم. ألا تفكر في حفظ حقوقك الفكرية؟

- لم أفكر إطلاقاً، وبصراحة أنا لن "أقطع رزق هذه المحال"، وأقول عليهم بالعافية، وهذه التسجيلات أو الألبومات هي غير رسمية ومنتقاة من حفلاتي التي أغنيها في الحفلات التي أشارك بها، وأظن أن مؤسسات الدولة ممثلة في وزراة الإعلام والتجارة هي الأقدر من الفنانين على المحافظة على حقوق الملكية الفكرية والدفاع عن الفنانين، وكذلك نقابة الفنانين يجب أن تمارس دورها وتكون ناشطة في هذا المجال لتساهم في ارتقاء الفنون والمحافظة على الإرث الفني الكويتي الزاخر بالجمال ووضع قوانين تقوض طرق الاعتداء على حقوق الفنان وتمنحه حقوقه كاملة بلا نقصان، وأعتقد أن الدولة يجب أن تدعم الفنان.

● وما نوع هذا الدعم؟

- من الأجدر أن تمنحنا الدولة تفرغاً فنياً يؤمن لنا حياة كريمة ويحررنا من الوظيفة، لأننا نساهم في المحافظة على فنوننا الشعبية البحرية من الاندثار. لذلك أرى أن التفرغ الفني يمنح الفنان فرصة لتوثيق الإرث الفني لبلده على أن تكون هناك أسس تنظم هذه الميزة من خلال المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب أو وزارة الإعلام، بحيث يقوم الطرف المانح بدراسة وتقييم العمل الذي سيقوم به الفنان أو الباحث والتدقيق بتفاصيله من حيث الفكرة أو طريقة تنفيذ العمل، ثم النظر وفقاً للمصلحة العامة وتحديد مدى استحقاق هذا الفنان للتفرغ. وهذا النظام كان سارياً في فترة سابقة استنادا إلى ما نص عليه مرسوم إنشاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب من "دعم الإبداع والمبدعين الكويتيين وتشجيعهم على العطاء في مختلف مجالات الثقافة والآداب".

الفنون البحرية

● بما أنك أتيت على ذكر الفن البحري، حدثنا عن أنواع الفن البحري؟

- الفن البحري نوعان عملي وترفيهي، وحينما تشاهد الفن البحري العملي فإنك تشاهد شخصية الفرد الكويتي القديم الذي اشتهر بالغوص على اللؤلؤ وصيد السمك والسفر وتكبد عناء المشقة بجلد وصبر، فلا يأبه بالمصاعب أو العقبات، بل يبتكر أساليب لتحفيز نفسه وزملائه على العمل من خلال الغناء، فكان هذا النوع الغنائي يظهر فيه النظام والدقة والتعاون، والنوع الآخر الترفيهي.

ومن الأمور التي لم ترق لي عملية تصنيف الفنون وفرزها بطريقة غير مقبولة، إذ أطلقت تسميات كفن الحضر أو فن البادية، وأنا لا تعجبني هذه التقسيمات.

القدماء والمجازفة البحرية

يؤكد العماري أن "ثمة مهام جسيمة منوطة بالنهام لا تقتصر على الترفيه، فهو جرس الإنذار للبحارة، وهو المحرك الرئيسي لهذه المجموعة، فهو العين التي ترى وترصد الأجواء. والحق أقول إن آباءنا وأجدادنا البحارة عظماء، فقد شقوا البحر وركبوا الأمواج العاتية وواجهوا المخاطر برباطة جأش وصلابة وجلد ليس لها مثيل، فهم كانوا يبحثون على لقمة العيش الشريفة، ويرهنون بيوتهم ويقترضون على أمل أن يسددوا هذه الالتزامات عقب رحلتهم البحرية فهم لديهم ثقة كبيرة بالمجازفة البحرية التي هم بصدد القيام بها، ولديهم ثقة كبيرة بالخالق أن يسدد خطاهم ويحقق أهدافهم، ومما يدعو إلى التعجب أن هؤلاء البحارة لم يسلكوا طرقا غير مشروعة للكسب، بل أردوا الرزق الحلال المغموس بعرق الجبين والهمة والصبر والكفاح، برغم أن القرصنة كانت متاحة، لكن لم يجنحوا إليها ولم يسيروا في دروبها، لذلك فنحن ننظر إلى هؤلاء بنظرة إجلال وتوقير واحترام".

لا للتقسيم

● وما سبب اعتراضك؟

- في السابق لم تكن هذه التقسيمات موجودة، وأنا والدي رجل ينتمي إلى الحضر ومولود في شرق وعاش في المرقاب، وكان يهوى العزف على الربابة، لأن الفن ليس له هوية، والكل يعشقه، وخير مثال على ذلك الفنان عبدالله فضالة كان يعزف على الكمنجة، ويغني بعض القصائد البدوية ومنها أغنية "الخلوج" و" يا راكبين أكوار".

● لنستكمل الحديث عن أنواع الفنون البحرية؟

- أنا بمجرد سماعي الفنون البحرية أستطيع التفريق بينها ومعرفتها مثلاً هل إذا كانت "خطفة" أو "يامال" أو "دوراري" أو "جيب" أو "شرت" أو "لمة"، كل هذه فنون بحرية يجب المحافظة عليها وعدم إهمالها. أنا استغرب لماذا لا تقوم مؤسسات الدولة المعنية بحفظ هذا التراث العريق من خلال أسس علمية أو من خلال معهد تدريب لصقل المواهب.

الفنون البحرية تندرج ضمن الفنون العملية، وهي كانت تنشد على ظهر السفينة، وهذه الفنون تبرز لك مدى ترابط طاقم السفينة وتعاونهم، إضافة إلى طاعتهم للنوخذة أو رؤسائهم في العمل، وهناك مفردات خاصة هي رموز أو إشارات من النوخذة إلى البحارة، وعلى سبيل المثال حينما يقول النوخذة "طيّح" تعني هذه الكلمة أن النوخذة يأمر البحارة بأداء الفن "الدواري"، وهو يتلخص بأداء مهمة موكلة إلى البحارة بحمل المرساة، فيبدأ النهام من خلال مجموعة من الجمل منها "يارب البيت بارك بمسعانا"، وكأن هذه الكلمات جرس تنبيه لكل البحارة بأخذ مواقعهم على السفينة والشروع بأداء المهام المنوطة بهم، وتظهر الصفقة وقرع الطبول والرقص، وهذا الأسلوب في العمل يكون منسجماً مع الحالة النفسية للنوخذة، فإن كان مرتاحاً وفرحاً ويريد أن يسعد البحارة يذهب في هذا الاتجاه، لكنه إذا كان مزاجه معكرا ويريد معاقبة البحارة، فإنه يذهب في هذا الاتجاه،وإذا كان يريد معاقبة البحارة فإنه يأمرهم في أداء المهمة لكن بدون رقص أو قرع الطبل والتصفيق.

أما "الخطفة" فلها إشاراتها وطرقها، وكذلك "اليامال" له أنواع منه "الراكد" و"المحرقي" و"فراقي" و"عشاري".

أولاد السندباد

● وما دور النهام في السفينة؟

- النهام هو الدينمو على ظهر السفينة، هو المحرك الأساسي للبحارة الذي يتراوح عددهم من 40 الى 90 وفقا لحجم المركب، ولأن النهام له دور كبير في السفينة قرر المؤلف الأسترالي آلن فاليرز دخول البحر مع النوخذة علي النجدي في إحدى الرحلات لرصد دور النهام، خصوصاً، والملاحة عامة، وفعلا قد قام بتوثيق ذلك من خلال إصداره كتاب "أبناء السندباد". وهذا الإصدار يروي قصة ربان أسترالي حرص على التعرف على الملاحة العربية، فأبحر بنفسه على سفينة شراعية كويتية في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، وعاش مع بحارة الكويت تجربة عميقة ثرية حافلة بالأحداث، على مسرح يمتد من البحر الأحمر وسواحل إفريقيا إلى الكويت. وعاش المؤلف أيضا تجربة الغوص على اللؤلؤ التي أثرت في نفسه تأثيراً عميقاً. والكتاب بشكل عام يقدم جانباً من صور الحياة في كويت ما قبل النفط، وفيه تقدير كبير لتفاني أبناء الكويت في العمل وحبهم وعظيم انتمائهم لوطنهم. وعقب صدور الكتاب حقق رواجاً كبيراً مما أدى إلى نفاد الكمية المطبوعة وتقادمها قام د. يعقوب الحجي بمراجعة الكتاب والتعليق على بعض ما جاء به من معلومات ليقدم مركز البحوث والدراسات الكويتية طبعة جديدة كوثيقة جيدة عن نشاط أهل الكويت في السنوات الذهبية للشراع الكويتي.

سالم العلان وحسين بومطيع

عن النهامين الذين تأثر بهم الفنان سلمان العماري، أوضح أن النهام سالم العلان هو الأكثر قربا منه، فهو يتربع على عرش النهامين ويأتي بعده بالدرجة الثانية النهام حسين بومطيع، مشيراً إلى أن "ثمة من يعارض حبي للنهام سالم العلان لأنه بحريني، بينما كنت لا ألتفت لما يقوله هؤلاء وكنت أسعى إلى تقديم نهمة مشابهة إلى طريقة العلان، لأنه من وجهة نظري من أبرز النهامين في الخليج العربي لأنه يمتلك خامة صوت قوية، إضافة إلى طريقة جميلة في الأداء. ونظراً لعشقي لهذا الفنان وقناعتي الفنية حرصت على الاقتداء به. وكلامي هذا لا يعني أنني لم أكن ابحث عن خصوصية في الأداء، بل حاولت تقديم أعمال فنية خالدة، لكن بطريقتي، مع المحافظة على جماليات الايقاع واللحن.

وأضاف: "من منظوري أن هذا هو التجديد أو التطوير لأن الفن لغة تخاطب الوجدان، لذلك يجب ان تمس مشاعر الانسان وبالطريقة التي تتناسب مع العصر".

يشار إلى أن النهام سالم العلان من مواليد قرية قلالي بمحافظة المحرق بمملكة البحرين، وكان والده نهاما، وبدأ سالم تعليمه في الكتاتيب، لكن الألم والشجن والحزن التصق به، إذ ذاق طعم اليتم، وهو في الخامسة من عمره، لكنه اتصف بالصبر والجلد وشق عباب البحر وهو في سن صغيرة، لم تخر عزيمته أو تكل ساعديه معاناته مع الشقاء والعذاب والتحدي، فكان في بادئ الامر تبابا ثم سيبا حتى اصبح نهاما.

وعقب ذلك اشتهر في البحرين وفي الخليج، وسجل بعض الاعمال لتلفزيون واذاعة البحرين، كما ان له الكثير من التسجيلات النادرة في الكويت وقطر.

وتوفي العلان في 25 سبتمبر 1981 عن عمر يناهر 67 عاما.