لم يكن الطالب محمد جابر، وهو يقوم بدور المخرج بين أقرانه، يدري أن أستاذه الدكتور نبيل الألفي يقف بين الكواليس يتابع أداءه ويستمع إلى ملاحظاته لزملائه. ما إن انتهى، حتى برز أستاذه فهب الجميع وقوفاً، وانتاب محمد شعور للحظة بأنه كان في اختبار عملي، فاختلطت مشاعره بين الترقب والقلق والخوف من رأي أستاذه، الذي أخذ عنه الكثير، غير أنه فوجئ برأيه:

Ad

= كويس يا جابر. الملاحظات اللي قلتها مظبوطة... واعتبروا إن أنا اللي قلت الملاحظات دي.

* العفو يا دكتور. أنا كنت بدردش أنا والزملاء.

= مش هناقش ده دلوقت خلينا في المهم. أنا بس عندي ملاحظة إن ملامحك كانت «فلات» شوية. الانفعالات ما كانتش واضحة على وشك. لازم يكون التعبير أقوى من كده. أنتوا بتعملوا «فاوست»... طبعاً واضح.

* واضح طبعاً يا دكتور. أنا بس وشي تعبان شوية من الإجهاد والقلق والتوتر.

= طيب خلاص. تقدروا أنتوا تمشوا. وأنت يا جابر تعالَ معايا عيزك في المكتب.

شعر محمد جابر بأن أستاذه لم يرد أن يوبخه على ملاحظاته لزملائه بعد البروفة، بعدما وقف في الكواليس يتابعه ويستمع إليه، وربما سيكون ذلك سبباً في إنقاص بعض الدرجات منه، ما قد يزيحه من المركز الأول الذي اعتاد عليه خلال السنوات الثلاث السابقة، غير أنه لم يكن يدري أن أستاذه سيمنحه اعترافاً واقعياً بتفوقه:

* مش فاهم حضرتك تقصد إيه؟

= أقصد أنك أنت تكمل إخراج المسرحية دي.. أنت عندك رؤية هايلة وفاهم إخراج كويس... وأنا عايز أشوف شغلك في المسرحية.

* أيوا يا دكتور بس أنا...

= ما فيش بس. اعتبر ده جزء من الامتحان. بس خد بالك ما تخليش المخرج يغلب الممثل، لأن دي حاجات بيقع فيها أغلب اللي بيمثلوا ويخرجوا، ما عدا أنا طبعا... هاهاها.

* صحيح يا دكتور. أنا كان نفسي أسأل حضرتك السؤال ده من ساعة ما دخلت المعهد. حضرتك ما شاء الله ممثل عبقري ووجه رائع في السينما والمسرح وكمان التلفزيون، ومع ذلك حضرتك بطلت تمثل.

= أنا سيبت التمثيل من سنة ستين... وما بفكرش أرجع له تاني.

* خسارة طبعاً. بس إيه السبب؟

= الجمهور.

* إيه... معقول الجمهور هو السبب؟

= مش بشكل مباشر. لكن الجمهور المصري بقى في المسرح وحتى في السينما كتير الحركة والتصفيق والضحك. زي ما يكون عايز يشارك الممثل في التمثيل، عايز يشاركه في انفعالاته في أنفاسه. يقلق معاه وينفعل معاه. لا وكمان ممكن يستعجل الحدث. وساعات يتنبأ بالحدث اللي هيحصل ويقوله قبل ما يحصل، سواء وأنت واقف على المسرح أو حتى وهو قاعد يتفرج في صالة السينما.

* فعلا ده حقيقي. أنا بأسمع طول الوقت تعليقات الجمهور ومشاركتهم مع الممثل وانفعالهم بيه.

= وده ما ينفعش مع الممثل المتأمل زيي... هاهاها.

* لكن ده ما يمنعش إن حضرتك ممثل عظيم... زي ما أنت مخرج عظيم وأستاذ عظيم.

= سيبك من الكلام ده. أنا عايز العرض ده يبقى الأول على عروض الدفعة كلها.

* إن شاء الله يا فندم. أنا بس بستأذن حضرتك إني هسافر يوم الخميس الجاي إسكندرية علشان عرض «هاملت» مع فرقة المسرح العسكري... وإن شاء الله راجع يوم الحد.

= أنا مش هأقولك لا. لكن مش عايز أي حاجة تبقى على حساب دراستك ومستقبلك.

* اطمن حضرتك من الناحية دي تماماً.

في صباح يوم الخميس الموافق 20 مايو عام 1965، سافر محمد جابر إلى الإسكندرية لينضم إلى فرقة المسرح العسكري، للمشاركة في مسرحية «هاملت» التي يخرجها أستاذه سعد أردش، لفرقة المسرح العسكري، في أحد المعسكرات الرياضية هناك.

الفرصة الأولى

توقع جابر أن يجيد في دوره ويلفت به أنظار أستاذه سعد أردش، ليكون عند حسن ظنه به كما وعده، ويضمن استمراره في الفرقة، الذي أصبح يمثل مصدراً رئيساً للدخل بالنسبة إليه. غير أنه لم يكن يتوقع أن تكون هذه المسرحية ودوره فيها، فاتحة خير لم يتوقعه، ليس لاستمراره في «فرقة المسرح العسكري» فحسب، بل لأنها ستكون سبباً لانتقاله إلى مرحلة فنية مختلفة من حياته.

عاد محمد جابر من الإسكندرية لا يعرف إن كان يمشي أم يطير. لم يصدق أن هذه الفرصة ستتاح له وهو لا يزال طالباً لم يتخرج بعد، فهو انتظرها منذ التحق بالمعهد، وحلم بيوم تخرجه لينطلق كممثل محترف يشاهده جمهور عريض، سواء في السينما أو التلفزيون، فتشاء الأقدار أن يتحقق الحلم وهو لا يزال طالباً، ومن خلال المسرح يشاهده جمهور التلفزيون بعدما عرض عليه المخرج كمال عيد بطولة مسرحية «روميو وجوليت» لفرقة المسرح العالمي التي سيصورها التلفزيون. ولكن كان عليه أن يواجه مشكلة صغيرة ويجد لها حلاً قبل توقيع العقد في اليوم التالي، وهي اسمه، إذ طلب منه المخرج كمال عيد البحث عن اسم بديل، وهو ما لم يضعه في الحسبان، فقد ولد وعاش باسم «نور إسماعيل» طفلاً وفي حي السيدة زينب، ثم باسم «محمد جابر» صبياً وشاباً، وهو اسمه في الأوراق الرسمية، والذي عرف به بين أساتذته وأقرانه من طلبة المعهد.

لم يرد محمد جابر أن يركب أية وسيلة مواصلات، قاطعاً المسافة من «محطة مصر» في ميدان رمسيس في وسط القاهرة، إلى حي السيدة زينب، يقرأ الأسماء كافة على لافتات المحلات، عله يجد من بينها اسماً يصلح ليتخذ منه اسماً فنياً له، أو على الأقل يمكن أن يساعده على تكوين اسم جديد. غير أنه ظلّ يمشي من دون أن يهتدي إلى شيء إلى أن وصل بيته، ليجد في انتظاره شقيقته الوحيدة «عواطف» التي لم تنقطع زيارتها له ولبيت العائلة، بعدما تزوجت، وهو يعتبرها دنياه كلها، هي شقيقته وأمه وصديقته وكاتمة أسراره، ولم يجد غيرها ليعرض عليها أول فرصة حقيقية في مشواره الفني، فكادت تطير فرحاً بها، غير أنه لم ينس أيضاً أن يعرض عليها المأزق الذي يقابله بسبب اسمه:

= ولا مشكلة ولا حاجة. بيني وبينك بقى عندهم حق... لازم النجم الجديد يبقى له اسم جديد.

* أنا عارف يا عواطف بس أنا فعلاً بحب اسمي... محمد جابر.

= حب اسمك زي ما أنت عايز. بس لازم يكون لك اسم الناس كمان تحبه وتحفظه.

* يعني هو مكتوب علي أتحرم من أبويا من يوم ما أتولد.. ولما جه الوقت إني أفتخر إني شايل اسمه قدام كل الناس... أتحرم منه.

= يا حبيبي لا حرمان ولا حاجة. ده مجرد اسم شهرة. زي كل الممثلين ما عندهم اسم شهرة. طب والنبي أنت لو دورت على كل الممثلين ما هتلاقي حد شايل اسمه الحقيقي.

* المشكلة أنه حتى اسم نور إسماعيل مش عاجبهم.

= بس خلاص لقيته.

* إيه متقولي «علي إسماعيل» بدل «نور إسماعيل».

= يا أخى بلاش هزار... أنت عايز الموسيقار علي إسماعيل يقاضيك. لا هيبقى نور برضه. بس الاسم التاني ناخده من ممثل أنا وأنت بنحبه أوي: عمر الشريف.

* أيوا يبقى نور عمر.

= لا. تبقى نور الشريف... من النهاردة يبقى اسمك نور الشريف... يا سلام... الممثل نور الشريف. لا الفنان الكبير نور الشريف.

بدأ الاسم الجديد يرن في أذن محمد جابر، وراح يردده بينه وبين نفسه، ويتذوق طعمه في فمه: «نور الشريف». جلس إلى مكتبه، ليدوِّن هذا الحدث الأهم في حياته، منذ مولده إلى هذه اللحظة، فقد اعتاد منذ أن عرف القراءة والكتابة، أن يكتب يومياته في «دفتر مذكراته» منذ أن أبصرت عيناه الدنيا، عبر ما قصته عليه شقيقته «عواطف» من حكايات ميلاده وطفولته وصباه، تلك الحكايات التي لم يمل يوماً من سماعها، حتى حفظها عن ظهر قلب، فهو شاهدها بعيني شقيقته، وتحديداً سبب إطلاق اسمي «محمد» و«نور» عليه.

ولد في منزل جده لوالده، الذي يحمل رقم (7) في حارة «الصائغ» في حي الخليفة» في 28 أبريل 1946، لأسرة تنتمي في جذورها إلى مدينة «مغاغة» بمحافظة المنيا، إحدى محافظات صعيد مصر. غير أنهم نزحوا مبكراً منذ مطلع القرن العشرين، للعيش في أحد أحياء المنطقة الجنوبية لمحافظة القاهرة، بالقرب من «مسجد السيدة زينب» رضي الله عنها، والذي يعد من الأحياء الشعبية العريقة والقديمة المكتظة بالسكان والعقارات القديمة، ويرتاده المحبون والمريدون، سواء من الأقاليم المصرية، أو البلدان العربية والإسلامية، منذ أن عرف في العصر المملوكي باسم «خط السباع»، نسبة إلى «قنطرة» شيدها السلطان «الظاهر بيبرس»، على «الخليج المصري» الذي كان يمرّ من أمام المسجد، وكانت على هذه «القنطرة» تماثيل للسباع، وهو شعار السلطان. ثم رُدم «الخليج المصري» عام 1898، ومع عملية الردم اختفت «قنطرة السباع» وظهرت واجهة «مسجد السيدة زينب» ومنذ ذلك التاريخ، أي في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ يطلق على الميدان بل والحي بأكمله اسم «السيدة زينب» حفيدة رسول (الله صلى الله عليه وسلم).

اختيار القدر

ما إن رأى الجد حفيده، حتى هلل وكبر، واحتضنه بين ذراعيه وقبله بين عينيه، ثم وضعه بين يدي والده:

= سميه نور يا جابر.

- نور اسم جميل يا والدي. بس أنا من ساعة ما شوفته وأنا قلت إنه محمد... على اسمك يابا... وكمان اسم النبي.

= عليه الصلاة والسلام.

- ولو كانت جت بنت كنت هسميها زينب.

= هو فيه أجمل من محمد. خلاص نكتبه في مكتب الصحة محمد... ونبقى نقول له في البيت يا نور.

جرت العادة في الأحياء الشعبية المصرية على أن يكون لكل شخص اسمان: الاسم الحقيقي الذي يُسجَّل في الأوراق الرسمية، و«اسم الدلع» الذي يناديه به الأهل والأصدقاء، وربما يعيش به طيلة عمره، بعيداً عن الأوراق الرسمية.

قبل أن يمرّ العام، وما إن بلغ محمد جابر شهره التاسع، حتى أصبح يتيماً. رحل والده الشاب في السادسة والعشرين من عمره، تاركاً طفلين: عواطف التي لم يتعد عمرها الخمس سنوات، ومحمد الذي لم يبلغ عامه الأول بعد، بالإضافة إلى زوجة شابة تخطت العشرين بعام، خيرتها العائلة بين البقاء مع أفرادها والعيش لتربية طفليها في كنفهم، أو الخروج بمفردها لتعيش حياتها وتتزوج، فقررت الأم البقاء لأجل محمد، الذي لا يزال رضيعاً.

نشأ محمد وشقيقته في بيت العائلة الذي يضمّ الجد، واثنين من الأعمام: الأول أمين الذي أنجب سبعة من الأبناء، والثاني إسماعيل الذي لم يرزق بأولاد، إضافة إلى عمته وابنتها بعدما رحل زوجها ولم تتزوج بعده، ليجد محمد نفسه طفلاً مدللاً لم يعرف معنى اليتم، فلا يأكل الجد قبل أن يأكل هو، ولا ينام إلا وفي حضنه محمد. لكن «اليتم» حاول أن ينال منه مجدداً بعدما رحل الجد فجأة وتكفّل به عمه إسماعيل، صاحب «ورشة نجارة» تبعد خطوات من البيت. إلا أنه لم يكن يقل في حنانه وعطفه عن الأب أو الجد، إن لم يكن يزيد عنهما، ما جعل محمداً ينشأ وهو لا يعرف له أباً سوى «إسماعيل». حتى أن أقرانه في الحي، بل وبقية أفراد الأسرة أصبحوا ينادونه «نور إسماعيل»، ولم يدرك معنى أن ينادوا شقيقته باسم «عواطف جابر».

رغم عدم إدراك نور أنه يتيم، وأن والدته تعيش في بيت العائلة، من دون أن يُغلق باب حجرتها على رجل سواه، إلا أنه أدرك بفطرته أنه رجل هذه السيدة وسندها. حتى أنه عندما كان يسير إلى جوارها في الشارع، ويلمح بعينيه رجلاً قادماً من الجهة المقابلة، ويشعر بأنه ربما يمرّ إلى جانب والدته، يسارع نور إلى تغيير يد والدته التي تمسك به، فإذا كانت تمسكه باليمنى، سارع وانتقل إلى اليسرى، أو العكس، حتى لا يترك ولو مجرد احتمال ليلامس الرجل طرف ثوب والدته. ولم يدرك أنه يغار عليها إلى هذا الحد، إلا عندما ألحت عليها أسرتها وبعض المقربين بالزواج، فهي لا تزال في ريعان الشباب، ومن غير المنطقي أن تظلّ بقية عمرها من دون رجل. لكن من هو الرجل الذي يرتبط بزوجة، مهما كانت صغيرة وجميلة، ومعها طفلين؟ لا بد من أن يكون رجلاً بمواصفات خاصة، ويقبل الطفلين قبل الأم، يكون أباً لهما، كما يكون زوجاً محباً لأمهما:

= أنا ما أقدرش أبعد عن ولادي.

- ومين قال إنك هتبعدي عنهم؟ ولادك هيفضلوا معاكِ.

= ولو الراجل ده رفض إن ولادي يعيشوا معايا؟

- ولادك لهم أهل مش هيترموا في الشارع... وهما عايشين معززين مكرمين أحسن ما يكون أبوهم عايش.

= ما قلتش حاجة. بس الكلام ده معناه إني هبعد عنهم.

- يا ستي ولادك موجودين تقدري تزوريهم أو يزوروكِ في أي وقت... وكمان ده راجل غني ومقتدر. يعني ممكن يعيشك أنت وولادك أحسن عيشة.

= وأقولهم إيه؟

- هم يعني كانوا عارفين إن واحدة زيك لسه ما جبتش العشرين كانت هتفضل مقطوعة كده بقية عمرها... قوليلهم جايلي عريس.

أمام هذا الإلحاح المستمر، اضطرت والدة نور إلى أن ترضخ لأمر أسرتها وتوافق على الزواج.

نبيل الألفي

أستاذ الإخراج الذي منح نور الشريف أول فرصة هو ذلك الفنان الأكاديمي الذي يحمل على ظهره تاريخاً طويلاً من العمل الأكاديمي والفني، منذ تخرجه في الدفعة الأولى من معهد التمثيل عام 1947، هو وزميل دفعته الفنان حمدي غيث، وإيفادهما من وزير المعارف، الدكتور طه حسين، في بعثة دراسية إلى فرنسا حيث تتلمذا على يدي أكبر مخرج فرنسي آنذاك وهو الفنان جان لوي بارو.

عاد نبيل الألفي بعد ذلك إلى مصر مدرساً للتمثيل والإخراج في المعهد العالي للفنون المسرحية منذ عام 1953، وخلال هذه السنوات التقطته السينما، كأحد الوجوه الجديدة، فشارك بدور صغير في فيلم «اليتيمتين» عام 1948، من إخراج حسن الإمام. غير أنه نال شهرته من خلال «حرام عليك» مع إسماعيل ياسين عام 1945، ثم قيامه بالبطولة المطلقة أمام سامية جمال وكوكا في «سيجارة وكاس» عام 1955، للمخرج نيازي مصطفى، ليختتم مشواره السينمائي مبكراً عام 1960، من خلال فيلم «جسر الخالدين» إلى جانب شكري سرحان، ومن تأليف وإخراج محمود إسماعيل وإخراجه.

ووجه نبيل الألفي بعد ذلك جهده إلى تدريس التمثيل في المعهد الذي تخرج فيه، فضلاً عن الإخراج المسرحي، وراح يقدم للمسرح المصري علامات من الأدب الغربي والعربي مثل: «ماكبث، إيزيس، أهل الكهف»، كذلك قام بدور البطولة في مسرحية «تاجر البندقية» التي قدمها للتلفزيون، ليعزف بعدها عن المشاركة في أي عمل فني كممثل، سواء في السينما أو المسرح، ما أثار علامات دهشة كثيرة، خصوصاً أن موهبته الفنية كبيرة، ووجهه يتناسب ومواصفات النجم الأول لهذه المرحلة.

البقية في الحلقة المقبلة