من كل أشكال الفنون لن يبقى سوى وجه الشعر النقي عملا إنسانيا خالصا يبدعه بنو البشر وإبداعا حصريا لهم، هذه ليست نبوءة، فالمستقبل سيشل يد الإنسان ومخيلته عن إنتاج باقي الفنون، إما بشكل كامل، أو شبه كامل.

وجه الشعر وحده سيبقى عصيا على إزميل الغد الحاد وجراحاته التجميلية، وهو الشجرة الوحيدة الراسخة جذورها في العمق الإنساني رغم شراسة التكنولوجيا التي يحملها المستقبل سيفا يقطع بواسطته رؤوسا قد أينعت في بقية الفنون، أو على أقل تقدير سيحدث في شكلها عمليات جراحية معقدة ستغير من شكلها.

Ad

كل الفنون من نحت ورسم وتلوين وموسيقى ورقص وسينما لم تسلم من تدخل التكنولوجيا وتقدمها المذهل في إبداعها، ما عدا الشعر، كلها خضعت وستخضع لتطور البرمجيات وتطبيقاتها في مجال التكنولوجيا، وسيصبح مبدعوها عاطلين عن الفعل والعمل، ولن يرقى إبداعهم إلى ما تنتجه التكنولوجيا الحديثة من أعمال فنية في مجالهم، أو في أضعف الأحوال لن يستغنوا عن استعطافها واستجدائها، لمد يد العون لهم لإنتاج أعمال تضاهي ما يمكن أن تقوم التكنولوجيا بإنتاجه من دونهم، وإلا سيفترشون الأرصفة، بحثا عن كسرة رضا بالكاد تسد رمق مواهبهم.

في مجال النحت تقوم التكنولوجيا عبر أفضل البرامج بعمل التصاميم الساحرة على شاشة حاسوب آلي صغير، ويتم تحميلها في روبوت، ليقوم بدوره بتجسيد ذلك التصميم على قطعة صخر أو معدن بدقة متناهية، وفي وقت قياسي يصعب على نحات بشري أن يكسره.

وفي مجال الرسم، استطاعت التكنولوجيا أن تجعلنا نأسف على ما أُفني من أعمار كل كبار الرسامين والفنانين التشكيليين، وما ضاع من جهدهم، وما استنزف من عرقهم، وما تلطخ بالألوان من ملابسهم في إنتاج لوحات أصبح بالإمكان إنتاجها بضغطة زر من جهاز صغير وبالأبعاد الثلاثية، إن أردت.

وفي الموسيقى، أصبحت الأجهزة قادرة على التأليف الموسيقي وكتابة النوتة الموسيقية والعزف دون الحاجة لبني البشر، بل إن العاملين في مجال الموسيقى لم يعد بإمكانهم إنتاج إبداعهم الخاص دون أن تمد لهم التكنولوجيا يد المساعدة، وإلا أصبح نتاجهم بدائيا لا يرقى إلى درجة الإبهار.

وتدخلت التكنولوجيا وبرامجها حتى في أصوات المغنين، وجعلت الرديء منها أشبه بصوت الكروان، وحتى الرقص لم يكن بمنأى عن تدخل البرامج الإلكترونية، إما من خلال تجسيد شخصيات كرتونية تؤدي أصعب الحركات الإيقاعية، والتي يعجز عن أدائها أبرع الراقصين، أو حتى من خلال ابتكار روبوت آلي يقوم ببعض الحركات الاستعراضية الراقصة. أما السينما، فلم يكن من المقدر لها أن تكون، لو أن الآلة وعمرها مرهون بها، وتطورها محكوم بمدى التطور التكنولوجي وتسخيره في صالح ما ينتج على الشاشة.

ورغم سطوة التكنولوجيا على سائر الفنون، والتي يتوقع لها أن تزيد، لدرجة أنها ستجعل قسما كبيرا من مبدعيها على الرف، لكنها لم تستطع أن تكتب شطرا من قصيدة أو تصنع شاعرا الكترونيا، وسيبقى الشعر هو الفن الإنساني الخالص الوحيد من بين كل الفنون، ففي البدء كانت الكلمة، وستبقى هي قول الفصل.