في الدول الرأسمالية الصناعية المتطورة مثل أميركا تتولى مؤسسات ديمقراطية صياغة السياسات ووضع الاستراتيجيات واتخاذ القرارات العامة التي تُصاغ ثم تُقر، وليس كما في دول العالم المُتخلف بحسب طبيعة شخصية الرئيس، إذ تنحصر في الدول الرأسمالية سلطته مهما كانت شخصيته، سواء مثل شخصية أوباما أو ترامب، في جانب دستوري مُقيّد ضمن شبكة من المؤسسات الديمقراطية الضخمة التي تعكس في كل مرحلة تاريخية معينة مصالح أكبر شركات المال الاحتكارية المعولمة، وأكبر مصانع الأسلحة.

في الدول الرأسمالية المعولمة هناك محددات للسياسات الخارجية يتم وضعها لمدى طويل بحسب المصالح الاستراتيجية للدولة، ولا يستطيع الرئيس، مهما كانت طبيعة شخصيته ومزاجه، تغييرها، فالعمل مؤسسي والسلطات مُحددة، والإجراءات طويلة ومُعقّدة. لنأخذ على سبيل المثال السياسة الخارجية الأميركية بالنسبة إلى دولنا، فهي سياسة ثابتة، إذ إن أميركا، بصرف النظر عن شخصية الرئيس وبعض الفروق الشكلية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تعتبر دولنا التابعة لها اقتصادياً ضمن نطاق نفوذها السياسي، ومصالحها الاقتصادية الاستراتيجية، وبالتالي أمنها القومي.

Ad

فالأموال الضخمة تأتي لهم باستمرار من دولنا سواء عن طريق الاستثمارات المالية الخارجية، أو عن طريق صفقات التسلُح الخيالية التي تزداد فاتورتها عاماً بعد عام (وصلت هذه الأيام إلى مئات مليارات الدولارات، وبما يفوق ميزانيات بعض الدول)، وذلك لدعم الاقتصاد الأميركي الذي تسيطر عليه وتتحكم فيه الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات وأكبر مصانع الأسلحة التي تواجه، في السنوات الأخيرة، ضائقة مالية خانقة هي أحد تداعيات الأزمة الاقتصادية الرأسمالية التي تفجرت عام 2008.

وبالإضافة إلى ضخ الأموال الضخمة من دولنا لدعم الاقتصاد الغربي عموماً والأميركي بشكل خاص، فإن منطقتنا تعتبر بالنسبة إلى دول الغرب منطقة استراتيجية من الناحية الجيو-سياسية، لذلك تعتبر الولايات المتحدة، كما بريطانيا، أمن دولنا من ضمن شبكة أمنها القومي على أن ندفع، كما يقول ترامب بكل صراحة ووقاحة، ثمن الحماية الأمنية على شكل تكلفة قواعد عسكرية في دولنا، وصفقات أسلحة خيالية واستثمارات مالية ضخمة، وهو ما يحصل بشكل واضح في الآونة الأخيرة، وذلك في الوقت الذي تتحدث فيه حكوماتنا بشكل مُكرر ومُمل عن عجز الميزانيات العامة، و"ضرورة" تبنيها سياسات مالية واقتصادية داخلية تُركز على إلغاء بنود الدعم الاجتماعي الضرورية، وجباية الأموال من جيوب المواطنين!

ومن أجل تسويق ذلك محلياً، فلا بد أن يسبقه ويترافق معه حملات إعلامية ضخمة تثير، بشكل مبالغ فيه للغاية، فزع الناس ومخاوفهم من "الإرهاب"، والخطر الإيراني الداهم، ووجود "داعش" و"القاعدة"... إلخ. أما الكيان الصهيوني "إسرائيل" المُحتلّة لأرض فلسطين فهي دولة حليفة لأميركا كما هو معروف، ويبدو أن العمل جارٍ، هذه الأيام، لإدخالها بشكل علني ضمن الترتيبات الجديدة التي ينتوي اليمين العنصري تنفيذها لإقامة ما يسمونه "الشرق الأوسط الجديد"، بحيث تتولى إسرائيل قيادته باعتبارها، كما يزعمون، الدولة القوية و"الديمقراطية" الوحيدة في المنطقة!