في الوطن العربي، استضفنا الملل على أكمل وجه، احتسى الشاي، ودُلِّكت قدماه ولُبِّيت طلباته ودفعت له الأموال الطائلة لئلا يفر من حياتنا، وبما أنه معنا كل سنة، وشهر، وأسبوع ويوم، وددت أن يستضاف في برنامج تلفزيوني.

ارتفعت الستارة، وتجلى سيادة الملل على الكرسي، وجلس أمامه المذيع بقائمة الأسئلة، فانطلقت موسيقى بداية البرنامج، وأشار طاقم الاستديو إلى أن المقابلة الأن أصبحت على الهواء مباشرة.

Ad

تجمد المذيع أمامه، فبدأ الملل بنفسه قائلاً: "أيها المشاهدون العرب، سأعترف لكم بأسباب وجودي عندكم، إيمانكم بهزيمتكم السياسية، رغم تفوقكم الاقتصادي، اندهاشكم من التفوق التكنولوجي الغربي والشرقي جعلكم تظنون أن مصيركم اليأس الأبدي من عدم مواكبة العالم تكنولوجياً، رغم قائمة العرب المتزايدة بكل مهرجان عالمي للمخترعين، كذلك شعوركم بالعجز عن تحقيق إنجازات أدبية بسبب ضخامة الفجوة بينكم وبين تراثكم المهول الذي لا تضاهيه أي حضارة، رغم تيسر أحوال الطباعة والبحث بعصر السرعة، كما أنكم هجرتم الزراعة رغم حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعودة بلاد العرب مروجا وأنهارا وأنتم في زمن اصبحتم فيه أهل المليارات، تسمدون قارات وترشونها حينما تشاؤون، وإلى جانب ذلك فقد ظننتموني جزءاً من معنى الصبر، فاعتبرتموني ضرورة للنجاح رغم أنني عدو الصبر اللدود، فهو نقيض الجمود والركود. كما اعتبرتم الإيجاز والاختصار والسرعة سمات الكسلاء لا الناجحين، رغم أن العكس هو الصحيح، بل غرقتم في التنظير وتخيل المثالية المطلقة لأي مشروع، فأصبح عجزكم عن إدراك الكمال هو...".

قاطع المذيع الملل وهو مرتبك: "اعذرني، نرحب بالسيد ملل، حبيب وسوسة الشياطين، وعلة الانحراف الأخلاقي، وسبب الإرهاب، والانحطاط العلمي، والدافع الرئيسي للطلاق وقاتل الإبداع، والراعي الرسمي لعيادات الطب النفسي، يا سعادة الملل، ما رأيك في حسن ضيافة العرب لك؟".

تبسم ضاحكاً ثم أجاب وأجاد: "أشهد لكم بأصالة الضيافة، رفعتم رأسي بارتفاع نسبة العنوسة والطلاق بسبب تضييقكم وتعقيدكم لدهاليزكم المجتمعية التي تنافي سماحة الإسلام، وأبهجتم فؤادي لما اعتبرتم أن تربية الأطفال تأتي بحبسهم في غرف مؤثثة بدل إرسالهم للمسجد وتحفيظهم القرآن الكريم لتتفجر عبقريتهم وترتفع درجاتهم المدرسية، وكم أسعدتموني عندما استخدمتم الإنترنت في إعادة تدوير الإشاعات والشتائم والغيبة والنميمة بدلاً من تفعيل فرص الاستثمار السهلة التي تحول الدينار إلى مئة خلال أشهر. أختتم جوابي، بأنني تألمت كثيرا لما طُردت من اليابان وأميركا وإسرائيل حينما سعوا جادين بحرصهم على الحياة، وأنتم تشبثتم بي، فشكراً لكم. رد المذيع: "انتهى وقت البرنامج، نشكر ضيفنا الكريم"، ثم ارتخى الستار وأطفئت الأنوار.

التفت المذيع إلى الملل بعد البرنامج، ليسأله سؤالاً عسى أن تطيب نفسه بجوابه: "هل تسمح لي أن أسألك بصراحة تامة؟ فنحن أبناء آدم فطرتنا الفضول؟ أدار الملل ظهره وقال متجهماً: الفضول والصراحة أعدائي، وأني أستعيذ ربي منهما! سأمهلك ثانية، هات ماعندك! فقال المذيع: "من الذي يخيفك؟"، وعلى الفور قالها: "البساطة! فإنها ستجعل صلة الرحم عديمة التكلف، والزواج بلا تصنع، والعلم يعود هواية، والمرح سجية، فبها يموت الروتين وتحيا المتعة الأبدية، هل تصدق يا هذا، أن شعوب العالم أدركت ذلك؟ ولكن يبدو أن الله عاقبني حينما أثقلت على البشرية، فابتلاني بكم لتجعلوني أنا أَمل!".