التحق إيمانويل ماكرون في سن الحادية والعشرين بمعهد العلوم السياسية. بعد ثلاث سنوات من الدراسات الأدبية في مدرسة «هنري الرابع» تلاها إخفاقان كبيران في امتحانات الدخول إلى مدرسة الأساتذة العليا (École Normale Supérieure)، قرّر الانضمام إلى معهد العلوم السياسية «لتضميد جراحه» و«كله ميل إلى الانتقام».

ماكرون في مطلق الأحوال مرشح «يوحي بالثقة والتعاطف» ويمتاز «بشخصية حيوية مليئة بالحماسة»، بهذه الكلمات وصفه أساتذته الذين أشرفوا على إعداده الأدبي في ملف ترشيحه لدخول معهد العلوم السياسية. ولما كان مخططه للمستقبل آنذاك مفتوحاً على الاحتمالات كافة، وكان يميل إلى حد ما إلى مهنة في التعليم العالي «ربما خارج البلد»، فإنه اختار فرع «الدوليات» (واحد من أربعة فروع كانت معتمدة آنذاك).

Ad

«الخدمة العامة» والفلسفة السياسية

صحيح أن انطلاقته كانت مقسومة بين دراسته الأدبية في الحي اللاتيني وبين سنواته في معهد العلوم السياسية، إلا أن انتقاله إلى الأخير شكّل خطوة أكثر تأثيراً في مسيرته مما يبدو، دفعته إلى اختيار مهنة في المجال العام: مع بداية السنة الثالثة (كانت المرحلة الجامعية تتألف آنذاك من ثلاث سنوات)، قرَّر تبديل مساره التعليمي والانتقال إلى فرع «الخدمة العامة». لكنّ إنهاءه سنته الثالثة الأخيرة استغرق عامين لأنه كان يتابع في الوقت عينه دراسات في الفلسفة في جامعة نانتير، حيث حصل أولاً على إجازة ثم شهادة دراسات معمقة. وهكذا مضى قدماً في مسارين متوازيين: خصّص مشروعَي تخرجه لمفكرين سياسيين هما مكيافيلي وهيغل. وكي تكتمل أجندة هذا الشاب الكثير الأشغال، أصبح في الفترة عينها مساعد محرر عمل مع بول ريكور على كتابه La mémoire, l’histoire, l’oubli (الذاكرة، التاريخ، النسيان) الذي صدر عن دار نشر Seuil عام 2000.

«سهولة واضحة»

لم يمنعه ذلك كله من أن يكون طالباً متميِّزاً واصل التقدّم باستمرار. هل شكّل هذا دليلاً على أن اختيار فرع «الخدمة العامة» كان قراراً حكيماً، أم أن توزيعه صفوفه على سنتَين أتاح له الاضطلاع بالتزاماته الجامعية بفاعلية؟ في مطلق الأحوال، حصل على أعلى علامة عن محاضراته في «الاقتصاد المعمّق»، و«التفاعلات السياسية»، و«المالية العامة»... «طالب بارع يتمتّع بفكر استثنائي بناء» و«نضج كبير»، بهذه الكلمات قيّمه أستاذه في مادة «الحماية الاجتماعية»، الذي تنبّه إلى «ثقافته الواسعة في الموضوع قيد المناقشة». ولم تأتِ الآراء الأخرى مختلفة، إذ حمل معظم التعليقات التي حظي بها الثناء. وشدّد مدرِّسوه خصوصاً على «سهولة تعبيره الشفهي شكلاً ومضموناً». ولا يعود الفضل في فصاحته هذه إلى معهد العلوم السياسية فحسب، بل أيضاً إلى دراسته المسرح منذ سنواته في المدرسة، التي أكملها بتدريبات في مجال التمثيل في مدرسة «كور فلوران» للمسرح.

لقاءات بالغة الأهمية

بدا واضحاً أن الطالب ماكرون يحبّ الحوار لا مناجاة الذات. يتذكّر علي بادو، أحد أساتذته: «كان أفضل طالب في صفي، إلا أنني أتذكّر خصوصاً أنه كان يهوى طرح الأسئلة والمناقشة». وهذا ما يتذكّره عنه بالتحديد موظفو مكتب الدخول في معهد العلوم السياسية (المسؤولون عن استقبال الطلاب). يقولون: «كان مقرباً منا وكان يتردّد علينا باستمرار لخوض المناقشات». أما مدرّسه المؤرخ فرانسوا دوس، الذي عرّفه إلى بول ريكور، فيشدّد على «قدرته على تحليل مختلف المواد وإعادة توظيفها» و«إنعاش دوماً المناظرات ضمن المجموعة ورفعها باستمرار إلى مستوى ممتاز».

ومع أستاذه جان- مارك بوريلو، بدأ الحوار في معهد العلوم السياسية وما زال مستمراً منذ 17 عاماً. يشكّل هذا المقاول الداعم للاقتصاد الاشتراكي (مجموعة SOS، 15000 عامل) أحد أعمدة حركة «إلى الأمام!». وينطبق الأمر عينه على زميله في الدراسة أوريليان لوشوفاليه، الذي رافقه خلال دراسته في المدرسة الوطنية للإدارة والذي يعمل اليوم مستشاراً له في الشؤون الدولية، وبنجامين غريفو (أنهى دراساته الجامعية عام 1999)، المتحدث الرسمي باسم «إلى الأمام!». ويجب ألا ننسى بالتأكيد صديقه المقرّب الخبير الاقتصادي مارك فيراتشي، الذي أصبح اليوم مستشاره في الشؤون الاقتصادية. شكّلت هذه روابط وصداقات دامت أكثر بكثير من انجذاب ماكرون العابر إلى حركة شيفنومان: بعدما شارك عام 1998 في تجمّع سياسي لحركة المواطنين في بيرينيان، التحق بدورة تدريبية عام 2000 في حكومة جورج سار، عمدة الدائرة الحادية عشرة المقرب من جان بيار شيفنومان. «لكنّ هذه المغامرة توقّفت عند هذا الحد»، حسبما يشير نيكولا بريسيت في عمله الذي خصّ به إيمانويل ماكرون.

لباقة وروح مرحة

لم تنقطع علاقته بمعهد العلوم السياسية مطلقاً. بعد إنهائه علومه في المدرسة الوطنية للإدارة، «قرّر ماكرون تعليم الثقافة العامة في معهد العلوم السياسية، مع أن الأعضاء الآخرين في المفتشية العامة للمالية يرجعون عادةً لتدريس صفوف في الاقتصاد في مدارس الجمهورية العليا»، حسبما يخبر فرانسوا-كزافييه بورنو. وبعد بضع سنوات، برهن إيمانويل ماكرون عن مدى كِبَر موهبته كخطيب أمام طلابه: بعدما حلّ ضيف شرف على احتفال توزيع الشهادات عام 2015، طُلب منه المشاركة في ثلاث مناسبات أخرى عام 2016: حفلة الطلاب، ومنتدى نظمته مدرسة الشؤون الدولية، ومناظرة حول أوروبا، فضلاً عن حفلة وداع موظف في مكتب الاستقبال بلغ سن التقاعد وكانت تجمعه به علاقة صداقة.

ولكن قبل أن تأتي الخبرة لتكمّل مهارته الخطابية، حوّلته حماسته وبراعته في الكتابة خلال دراسته في معهد العلوم السياسية أحياناً إلى ثرثار بعض الشيء، وهذا ما تشهد عليه عبارة «طويل جداً» التي دوّنت على أعمال قدَّمها خلال دراسته... وتشمل عيوب هذا الطالب المثالية (البسيطة) الأخرى «ميله إلى المغالاة في ثقته بنفسه»، ولكن توازن ذلك، وفق أحد مدرّسيه، «روح مرحة جداً»... إلا أن تقييم هذا البروفسور الكبير في معهد العلوم السياسية المتخصص في التاريخ وحقوق الدول ربما يكون أفضل ما توقّع إمكانات الشاب ماكرون. ذكر بإيجاز: «إنه طالب استثنائي في المجالات كافة. يتمتع بذكاء كبير، ولباقة أخلاقية، وكرم حقيقي. ويمتاز بصفات فكرية خارجة عن المألوف». كان محور المادة التي برع فيها هذا الطالب: «الدولة في فرنسا وإصلاحها».