أول ما يثير دهشتك في فيلم «علوش» (فرنسا وتونس/ 15 دقيقة)، الذي عرضه «مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة» في دورته التاسعة عشرة (19 – 23 أبريل 2017)، وعرض سابقاً في الدورة الثالثة عشرة (7 – 14 ديسمبر 2016) لـ «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، بينما كان الفيلم العربي والإفريقي الوحيد الذي اختير للمشاركة في المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة في مهرجان «كان» في دورته التاسعة والستين (11 – 22 مايو 2016)، أنه لم يكتف بالتنديد بالقهر الذي تمارسه الأجهزة الأمنية العربية، وإنما فعل هذا بسخرية لاذعة أضافت إلى العمل ورفعت من قيمته كثيراً.

كذلك تميّز الفيلم بانطلاقه من قضية مُغرقة في المحلية ليطرح قضية إنسانية وعالمية عبر سيناريو الفرنسية ناتاشا دي بونتشارا، الذي تحمس له المخرج السينمائي والمسرحي والكاتب التونسي لطفي عاشور، وشارك في الإنتاج مع سيباستيان هوسونو وأنيسة داود، وشاركته الأخيرة إنتاج وكتابة نص وبطولة فيلمه الروائي الطويل الأول «غدوة حي».

Ad

الفيلم القصير الجميل تدور أحداثه بالكامل في صحراء حدودية نائية يستوقف فيها ضابطا شرطة تونسيان شاحنة نصف نقل قديمة يقودها كهل، برفقته حفيده، وعلى متنها شحنة من الخراف المعدة للبيع بمناسبة اقتراب العيد (من هنا جاء اسم الفيلم لأن «علوش» في اللهجة التونسية تعني الكبش أو الخروف)، وكالعادة في مثل هذه الأحوال ينظر الضابطان إلى الكهل بوصفه ضحية يسهل ابتزازها، بينما نستطيع أن نرى حجم ما وصلت إليه العلاقة بين «السلطة» و{المواطن» من تردٍ. فرغم استيفاء الكهل أوراقه وأوراق السيارة، فإن رجلي الأمن يتذرعان بأن شروط الأمن والمتانة لا تتوافر في الشاحنة المتهالكة (خلل في الإضاءة وعيوب فنية تستوجب الإصلاح) كمبرر لتوقيفه، والتحفظ على الشحنة والشاحنة. ومع مرور الوقت، وقبل أن يسدل الليل ستاره، يبدأ الرجلان في التفاوض مع الكهل، الذي استسلم لقدره، وإن أصابه القلق على حفيده، ويأخذ الحوار منحى إنسانياً خالصاً مع حديث الجنديين عن «خدمة الوطن»، والمعاناة من الإهمال والتهميش في تلك المنطقة النائية. لكنه الحديث الذي يتضح أنه مقدمة لصفقة دنيئة يبرمانها مع الكهل المغلوب على أمره، الذي أخطأ عندما كشف لهما أن حمولة شاحنته تتكون من ثمانية خراف، إذ يجدانها فرصة لغض الطرف عن المخالفات المرصودة في مقابل أن يمنحهما «علوش» على سبيل الهدية !

هل أراد الفيلم القول إن المواطن العربي تحول إلى «علوش»؟

مع الاحتمالات المطروحة كافة في تفسير الفيلم فإن المخرج أبدع في إيصال الرسالة، تارة باللقطات العامة وطوراً باللقطات القريبة (مونتاج لوي شابو)، بالإضافة إلى توظيف الموسيقى (جوهر الباسطي) والمكان الواحد (الصحراء النائية) والزمان الواحد (يوم بأكمله)، لإبراز مواطن الجمال والمناظر الطبيعية «لاندسكيب» landscape، ما ساهم في إضفاء مسحة رائعة على الفيلم (تصوير فريدريك دي بو نتشارا)، الذي لم يتخل مخرجه عن أسلوبه البسيط الأقرب إلى السهل الممتنع، فالسيارات الفارهة تمرّ على الطريق في سرعة مروعة من دون أن يجرؤ أحد على توقيفها، في حين يتعرض المواطن الفقير للازدراء والابتزاز لأتفه الأسباب، في تكريس واضح للطبقية، وغياب المساواة، والقهر الذي بلغ مداه. لكنّ رجلي الأمن يتراجعان عن الصفقة خشية عيون الناس في حال شاهدوا معهما {العلوش}، وفي بلادة وجشع صارخين، يطالبان الكهل بتقاضي الثمن نقداً، وهو ما يستجيب له الرجل فعلاً، وفوراً يُفرج عن السيارة ويحصل الكهل مع حفيده على الإذن بالمرور، والسماح بمواصلة رحلته. وفي لقطة بالغة الدلالة تبتعد الشاحنة، وتغادر {الكادر}، بينما يحتلّ رجلا الأمن الشاشة، وهما يتقاسمان مبلغ الرشوة ثم يبدآن التسكع في انتظار الضحية الجديدة... من الفقراء بكل تأكيد!

رؤية طازجة ومبتكرة لقضية قديمة طالما استهلكتها السينما العربية، فالرشوة تكاد تكون {قضية عربية بامتياز}، لكن الربط بينها والممارسات الأمنية، كدليل على استفحال القهر، يمثّل مدخلاً جديداً من نوعه، ولولا اللهجة المحلية التونسية ما فطن أحد إلى أنه يشاهد فيلماً تونسياً، لفرط طغيان الطابع الإنساني على التناول، وعدم التورط في تحديد ملامح، وتبعية المكان، بالإضافة إلى براعة كاتبة السيناريو الفرنسية، التي بدت مُلمة بأبعاد الظاهرة، وماهرة في التقاط زاوية غير مطروقة لتنسج منها خيوطها باقتدار. أما المخرج التونسي لطفي عاشور، الذي أجاد قيادة ممثليه (منصف الصايم، وجوهر الباسطي، ومنعم العكاري، ومحمد بهاء كروشي)، وبدا حريصاً على الالتزام بالوحدة المكانية والزمانية، فيأتي تألقه بمثابة تأكيد موهبته، التي تجلت سابقاً في فوز فيلمه القصير {العز} (23 دقيقة) بالجائزة البرونزية في مسابقة {المهر القصير} بمهرجان دبي السينمائي عام 2007، لكنه في {علوش} يبدو جريئاً في اختيار قضية شائكة، تثير، في أغلب الأحوال، حساسية مفرطة لدى الدولة، والأجهزة الأمنية، والرقابية!