عنوان المقالة لرواية الكاتب المصري الشاب هدرا جرجس، وسبقتها رواية "مواقيت التعري"، ثم رواية "صياد الملائكة"، وآخرها "خطية رابضة عند الباب".

قبل كتابة هذا المقال أحببت أن ألمّ بكل كتابات هدرا جرجس، لماذا؟ لأنه برأيي كاتب شاب مختلف عن مجموعة كتابات المغامرات السريالية و"الأكشن"، الموضة السائدة لأغلب الكُتاب الشباب المهرولين وراء تقليد الأفلام والكتاب المشهورين بهذا النمط من الكتابة. أنا لا أعيبها، فهي لها قراء، لكنها ليست المفضلة لي، ومن جهة أخرى كتابته تفتح تيارا أو بابا لنظرة اجتماعية جديدة تبدأ من عنده، فقبله لم تكن هناك كتابات تقدم العوالم المسيحية والمسلمة وعلاقاتهم واختلافاتهم بكل هذا التركيز العميق على تفاصيلهم. كل قراءتي السابقة منذ صباي وإلى الآن لم أقرأ رواية لأي كاتب غائصة في هذه التفاصيل المتولدة من الانتماء الديني، بما فيها كتابة إدوار الخراط، التي ربما توجد فيها بعض الإشارات المسيحية الطفيفة.

Ad

لكن مع ازدياد التشدد الديني وارتفاع إيذاء الإرهاب ضد المسيحيين، انتبه الناس والكُتاب لفروقات الانتماء الديني التي لم يكن لها لازمة حينما كانت الشعوب تعيش بمحبة وتصالح دون أن تنتبه أو تُلقي أي اعتبار لما لا أهمية له.

كتابات هدرا جرجس كمسيحي، وأيضا كتابات سعيد نوح كمسلم، وأشرف الخماسي، كلها انتبهت إلى تفاصيل ما يعكسه الانتماء الديني على حياة جماعته، لكن هدرا كشاب مسيحي يرى ويتفاعل مع كل هذا العنف الإرهابي الذي أحاط بأقباط مصر ومسحيي العرب، بلا شك أثر على وجدانه المسيحي وحياته.

الجميل في كتابته أنها لا تنحاز ولا تهتم أو تنضم لطرف المسيحي أو المسلم، هو يقدم ويكتب الحياة بينهم كما هي.

رواية "صياد الملائكة" تحكي حياة شاب مسيحي مسالم يعيش على هامش العزلة بعيدا عن معايشة من حوله، له صديق واحد يطلب منه قضاء وقت مع مومس مسلمة بشقته، ويقنعه أيضا بمعاشرتها قبله، وهو البتول الذي لم يعرف أي علاقة من قبل، وقبل معاشرتها يحطم باب شقته جيرانه المسلمون ويقودونه إلى السجن، ليخرج منه بعد تعذيبه مجنونا يطوف في شوارع مدينة حطمته.

أما نوفيلا "خطية رابضة عند الباب" فتحكي عن المعلم "مسيحة" مرتل للألحان في الكنيسة العجوز، وجاره تاجر الأخشاب المسلم "أبوالسعد" الذي يقوم ابنه سعد وهو بعمر الثانية عشرة بترويع وإخافة "مسيحة" العجوز عبر الباب المقفول عليه، ما أدى إلى توقف قلبه وموته إثر مزاح الصبي ولعبه بأعصابه.

رواية "أوقات التعري" سأكتب عنها حين الحصول عليها.

الروايات الثلاث كلها تمتلك روح ودفء وغموض مصر القبطية المنغرس نسيجها في طبقات ثقافات الحضارات المتعددة التي مرت عليها، عمل هدرا على تضفيرها بسرد رائع متداخل مع الحوارات، ويتوالد من بعضه البعض بجودة وحذاقة عالية، يقتنص ويوظف أصغر الأشياء أو الأمور التي تبدو عارضة أو هامشية تمر مرور عابر عند قراءتها تجدها تعاود الظهور بدور أهم وأكبر، مثل أرض الهيش، وفاترينة الشاي، عكاز الألمنيوم، وغيرها، رغم أنها جماد أو أشياء، لكنها تسقط ظلالها وصورتها بحكايات أصحابها، لتوضح وترسم واقعهم من خلال مفتتحها.

حكايات مربوطة بأزمان أبطال تتقدم وتتأخر بتواريخ تعيد حكايات حياة من فيها تبدأ بميقات تتويج الأنبا استفانوس بدرجة الأسقفية، ومن أثر جرح في رأسه أعاده حين تحسسه إلى بدايات طفولته وحياته، ثم يأتي دور الباشكاتب الذي يشبه الأنبا استفانوس، وهنا يغرز هدرا جرجس الشك في قلب النص، فهل يكون الباشكاتب ابنا للأنبا حين حاولت إغواءه مريم الحلبية، في حين أن السرد ينفي ذلك عند تكملة حكايته؟

ثم يرحل الزمن إلى ماضيه، ليصبح الأنبا طفلا يلهو مع أقرانه، ثم تسلم الحكاية إلى الباشكاتب وماضي أمه مريم الحلبية، وحكيم الزبال الذي بات نائبا للدائرة، وإسماعيل الأعرج صاحب فاترينة الشاي، ومنصور حارس الجبّانة البالغ من العمر مئة عام الذي تسلق التمثالين، وبلط حجريهما الكوارتز بمادة طينية ساحرة، وأمر الروح الساكنة فيهما أن تسكت فسكتت إلى الأبد وتوقف نواحهما، ولكل هؤلاء فصل يكشف حاضرهم وماضيهم وتشابكهم مع أبطال الرواية جميعهم.

تبقى كتابة هدرا جرجس متميزة بعمق صادق وصادم لشخصيات تطرح أسئلة ذات بُعد وجودي لزمن بات يحاصر حياتها ووجودها فيه ويحاول إلغاءها من كينونتها.