لما كنت ناقداً وإنساناً له حاجات، فأعترف بأن أحدث أفلام تيرينس ماليك تصيبني بالجنون بسبب الصوت الهامس الذي يرافق المشاهد وتصوير النساء دوماً كقديسات أو خاطئات. بدأتُ أكره النوافذ الساحرة التي تمتدّ من الأرض إلى السقف في تلك المواقع الفخمة التي تشمل أصغر عدد من المفروشات، ويقشعرّ بدني حين تظهر الأرواح النسائية السامية على شكل دوامة بيضاء لا تكفّ عن الدوران وتحيط بها مساحة عشبية شاسعة أو تخترقها رقصة تقليدية في ممر جانبي أو تظهر لتقطع حركة السير.

يكتب ماليك مشاهد حوارية طويلة حين يحضّر السيناريوهات والأفلام ثم يقطع معظم المحادثات خلال عملية المونتاج وكأنه يقول إنها ليست ضرورية! يفضّل أن يركز على التقنيات السينمائية المحض، علماً بأنها تأتي مدهشة بما يفوق التوقعات أحياناً.

Ad

يصيب هذا الفنان الدقيق هدفه مباشرةً من دون الاستناد بالضرورة إلى قصة متينة. ربما ينشغل بأساليبه السينمائية ثم يصور المشاهد التي يريدها، فيما يطرح أحد الممثلين أسئلة بلاغية حول الحب أو الذنب أو عظمة الأرض الخضراء التي تشهد دماراً متزايداً!

صور شاعرية

بسبب هذا الأسلوب، يبدو ماليك متكلفاً. لكن رغم فشل عمله الأخير غداة فيلمه الضخم The Tree of Life (شجرة الحياة) في عام 2011، لا يمكن تجاهل هذا المخرج. يتّكل ماليك على حدسه بشدة حين يبتكر الصور الشاعرية. لا يهتم كثيراً بالنثر ولا يإيقاع القصة. حتى في أكثر أعماله الفارغة (لا سيما Knight of Cups فارس الكؤوس)، تمرّ لحظة أو قافية كفيلة بترك أثر في دماغنا أو يمكن أن يلازمنا الصدى البصري لدقيقة أو 10 دقائق أو طوال الفيلم أحياناً.

يبدو أن ماليك يقترب من إنهاء مرحلة كاملة من مسيرته، وربما يشكّل أحدث فيلم له، Song to Song (من أغنية إلى أخرى)، آخر جزء من تلك المرحلة.

كره كثيرون العرض العالمي الأول هذا الشهر في مهرجان «ساوث باي ساوث ويست» في «أوستن»، تكساس، حيث صوّر ماليك معظم مشاهد الفيلم. وسارع كثيرون أيضاً إلى مغادرة الصالة خلال عرض آخر في شيكاغو!

كلما يوتّرني الفيلم، تظهر بعد دقيقة أو بعد ثلاثة مشاهد لقطة لغروب الشمس، أو مشهد بين مايكل فاسبندر وناتالي بورتمان، أو حوار نادر من دون ظهور من يتكلم.

يستعمل فيلم Song to Song أسلوباً مزعجاً ومتكرراً لكنه يبقى أكثر إثارة للاهتمام من فيلمَي Knight of Cups أو Voyage of Time (رحلة زمنية)، أحدث عملَين أنتجتهما شركة «إيماكس» عن الرحلات الكونية.

يمكن اعتبار أحدث فيلم لماليك مثلث رومانسي مع أنه أكثر تعقيداً بكثير. تطغى الأجواء الموسيقية على «أوستن»، فيؤدي فاسبندر دور منتج موسيقي شرير وقذر ومتسلط، فيما راين غوسلينغ كاتب أغانٍ تحت جناحه. أما روني مارا، فمغنية وكاتبة أغانٍ أيضاً، وتصبح باتي سميث مرشدتها.

يبدو أن المصور السينمائي إيمانويل لوبيزكي، في تعاونه الخامس مع ماليك، اكتشف طريقة لتسليط الضوء على بورتمان من الداخل. تجسّد الأخيرة جمال تكساس البري وتقدّم دورها كنادلة بطريقة جريئة. تقيم علاقة مع فاسبندر المرتبط أصلاً بالشخصية التي تؤديها مارا وتخون الأخيرة حبيبها أيضاً.

يشتق هذا الفيلم المرتجل الذي سُمّي في الأصل Lawless (متمرّد على القانون) ثم Weightless (بلا جاذبية) من مسرحية آرثر شنيتزلر La Ronde (الجولة). إنها سلسلة متلاحقة من العلاقات الحميمة. ينهي غوسلينغ علاقته بمارا بسبب غيرته وعدم تسامحه ويمضي بعض الوقت مع كيت بلانشيت. ثم تعيش مارا علاقة عابرة مع فرنسية جاءت حديثاً إلى «أوستن» وتؤدي دورها بيرينيس مارلو. يقدّم ماليك مغامرات مارا على شكل تجارب تشوبها الأخطاء. حين تقول «تمرّدتُ على الخير»، قد يأخذ المشاهد لحظة للتفكير بغض النظر عن نزعته الأخلاقية.

شخصيات حالمة

لا تبدو الشخصيات متقنة بل تعكس تقلبات مزاجية معينة. يظهر فال كيلمر على الشاشة لبضع ثوان وهو يحمل منشاراً على المسرح خلال أدائه المباشر: إنه تغيير مدهش ضمن لقطة قصيرة وغريبة يدور في خلفيتها مشهد حواري.

يختبر فيلم Song to Song شخصياته الحالمة والتائهة ويزيد حكمتها أو ربما خبرتها. للتعبير عن مشاعري أثناء مشاهدة الفيلم بأفضل طريقة ممكنة، يمكن أن أقول إنني تعاركتُ معه وكرهتُ جزءاً منه لكني وقعتُ أحياناً تحت سحر بعض اللقطات العابرة.

في فيلم Deadhead Miles (الأميال الميتة) الذي كتبه ماليك في بداية السبعينيات قبل أن يحقق النجاح في Badlands (أراضي الأشرار)، يستمتع خاطف ببلوغ أحدث أهدافه حين يشاهد شاحنة قادمة في اتجاهه فيما بقي ميلَان فقط من الطريق الفارغة خلفه». يقف ماليك في هذه المرحلة من مسيرته المهنية أمام طريق فارغة تُحتّم عليه أن يمضي قدماً.