ليست هناك كتابة تشبه ما يكتبه أمير تاج السرّ، ذلك أنه حالة قائمة بذاتها، معجونة بنكهة تخصه وتدل عليه. وأنت حين تقلب صفحات مما يكتب، لا تحتاج أن تعود إلى الغلاف لتعرف من يكون المؤلف، فكل جملة وتعبير وشخصية تشير إليه وتدل على خطواته فوق الورق. أما تلك الدلائل فيمكن تلخيصها بالآتي:

أولاً ، أمير تاج السرّ ابن بيئته ومسقط رأسه بجدارة. ويبدو أن تلك البيئة السودانية بأرضها وناسها وسماتها الاجتماعية والثقافية ظلت تبثّ روائحها العابقة في قلم الكاتب وروحه وفكره، على الرغم من البعد المكاني الذي يعيشه بمنأى عن كل ذلك. إنه دائماً إزاء صندوق سحري لا ينضب من الصور والوجوه والأمكنة والأصوات والروائح ، التي تدعوه جميعها إلى إعادة تشكيلها على مهل، وكأن النأي يزيدها إغراءً وثراءً.

Ad

وأنا بإزاء قراءة رواية (366) و (قلم زينب) التي سمّاها سيرة روائية، تغزوني كالعادة البيئة التي عشقها تاج السرّ، بأحيائها مثل حي (المساكن) وحي (الصهاريج) وحي (النور) في بورتسودان الساحلية. وبشخصياتها الأشبه بالشخصيات المسرحية، التي اختلطت في تكوينها المأساة والملهاة بنسبة بالغة الدقة، تجعلك ترفع حاجبيك دهشة أمام أولئك الذين لا تدري إن كان يحق لك أن تنسبهم إلى الحياة أم إلى الفن. شخوص لا يمكن أن يوجدوا إلا في تلك البيئة التي صنعتهم، والظروف التي نحتتهم لتشكل منهم نماذج مثل بطل (366) مدرس الكيمياء في مدرسة متوسطة، الذي لا يرى من دنياه غير الرثاثة وضيق فسحة الأمل، وغير وسط لا يخلو من عاهات العيش وضنكه، فاختار الانفصال عن هذا الواقع الفقير والإبحار وراء خيالات العشق المستحيل، الذي يقتات الخيال والوهم. وهكذا طلق حياة الواقع وكرّس نفسه لرحلة البحث عن الوهم ما وسعته الحيلة، إلى أن انتهى إلى الانتحار وحيداً في غرفته البائسة.

أما في (قلم زينب) فأنت إزاء ذات البيئة، حيث الرثاثة والاحتيال على العيش، وحيث تنمو الشخصيات لتتحدى هذا الواقع ما وسعها الجهد والحيلة. سواءً تمثل ذلك في شخصية الطبيب الذي يصارع عجزه الممزوج باليأس، أو في شخصية (إدريس علي) الذي اتخذ من النصب والاحتيال أداة من أدوات العيش. أما باقي الوجوه مثل (سماسم) والهندي (برد شاندرا) و(الشاويش خضر) و(نجفة) وغيرها من الوجوه فتأتي لتعزز فرادة تلك البيئة وسماتها الفارقة، وروائحها المعتّقة.

ثانياً، تمتاح كتابة أمير تاج السرّ من الذاكرة ، وهي ذاكرة متوقّدة، مرتبة، مبدعة، متحيزة للجذور. والذاكرة إذا ما تعززت بالخيال- الذي يعيد تركيبها ونحتها كما يشاء مقام الكتابة-، توهّجت من جديد بتلك الواقعية السحرية الجذّابة. فيصبح الحدث أكثر إثارة، والشخصية أكثر حيوية وغنىً.

في (قلم زينب) يرشدك الكاتب إلى أن الكتاب هو نتاج من نتاجات الذاكرة ، وذلك حين سمّاه (سيرة روائية). فالطبيب في السيرة هو ذاته الكاتب في مقتبل مهنته، وكذلك مساعده الممرض والمحتال (إدريس علي) و(الشاويش خضر)، كل هؤلاء قد يكونون من لحم الواقع المعيش الكامن في الذاكرة. ولكن هذه الذاكرة تحتاج ولا شك إلى شقّها الخلاق لتعيد صياغة ذلك الواقع داخل إطار الفن، فيولد لدينا هذا الأثر المسمى (سيرة روائية).

ثالثاً، يأتي عنصر (الحسّ الساخر) لدى تاج السرّ ليسم كتابته بأهم سماتها. فرغم ما يلوّن بيئات رواياته من شظف وضنك، وشخصياته من بؤس ورقة حال إلا أنه يضفي عليها جميعاً تلك المسحة من حسّ الفكاهة والسخرية المبطنة، ويأخذك معها إلى فن كاريكاتيري بليغ يخصه هو دون منازع. فأنت حين تقرأ له تكون في حالة ابتسام دائم لا ينقطع، ابتسام قد يتحول إلى ضحك خفي أو معلن. وستجد وأنت في حالتك تلك كيف يأتي الحسّ الساخر معادلاً لحياة مهيضة ومتوازناً معها، وعلامة فاقعة على استحقاق الوجود رغم كل شيء.