عندما وقف مسلم البراك منفرداً في ساحة الإرادة، لتوجيه خطاب مباشر لسمو الأمير عن ممارسات السلطة، فإنه لم يكن يخشى حينها -كما كان يقول- لومة لائم، وتحمّل السجن في سبيل الحفاظ على كرامته وما خرج من أجله، وكان الرجل فعلاً على قدر كلمته، وما كان أسهل عليه من أن يترشح للانتخابات ويحرز المركز الأول كعادته، ليتمترس خلف الحصانة البرلمانية، ومن ثم يبرر موقفه المتخاذل هذا بأي كلام وتبرير! ولن يعجز بالطبع عن إيجاد من يؤيد ويصفق لذكائه وحكمته المعهودة في كل الأحوال، إلا أنه لم يفعل ذلك ليخدع نفسه ويخدع من صدقوه، بل التزم بما قال حتى النهاية، ولم يتراجع أو يختبئ.

لذا لن نسمح لكم اليوم، يا من اختبأتم خلف الحصانة البرلمانية، بالضحك على ذقون الناس، والعبث بمشاعرهم وعواطفهم وانفعالاتهم، ثم الهروب سالمين من المحاكمة غانمين بمقاعدكم البرلمانية، فالعبث لا يكون بالأموال وعدد الأصوات فقط، فتمييع المبادئ وصبها حسب قياس أمزجتكم وأهوائكم، حتى صارت أخطاء الوزراء البسيطة جريمة لا تغتفر لديكم، وبلاوي المكاتب الصحية الجسيمة مسألة فيها نظر، عبثٌ أيضاً، أما خداع البشر واللعب بآمالهم وتطلعاتهم فهو أشد أشكال العبث خطراً وأكثرها إيلاماً وحسرة، فبعد أن شحنتم الأنفس ونفختم بالرماد، ورقصتم حول النار حتى أتقنتم دور البطولة، وتقمصتم الشجاعة والإقدام، فاندفع معكم الشباب الذين ظنوكم رجالاً حقيقيين لا تخشون المواجهة، ولا تهابون المخاطر، كما أوحيتم لهم، تواريتم خلف حصانة مجلس الصوت الواحد المؤدي طريقه إلى مزبلة التاريخ، حسبما كنتم تروجون، وتركتموهم وحدهم يواجهون مصيرهم مع الأحكام الجزائية التي تنتظرهم، فلا مرجلة شوهدت ولا عداد يعمل لها ولاهم يحزنون، ولا أظنهم بعد أن اكتشفوا، ولو متأخراً، أنه ليس كل ما يلمع ذهباً، ولا كل من يصرخ صادقاً، ولا كل من يتحدى جريئاً، سيسكتون عنكم وعن تخاذلكم، ولو من باب النقد الذاتي الهامس، فالكرامة لا تتجزأ ولا تستخدم حسب الحاجة، فمن يظن أن السلطة قد مست كرامته بإقرارها للصوت الواحد، فأجزم أن شعور انتهاك الكرامة لديه سيكون أعظم إذا ما أيقن أنه قد تعرض لخداع وانتهازية واستغلال زملائه، حين دفعوا به للخطوط الأولى يكسح عن طريقهم الألغام، ويتحمل عنهم كل الضربات، وهم من يحرزون النياشين والألقاب الفارغة، كما اتضح لاحقاً!

Ad

يفترض على من يصرخ طوال الوقت بأن السلطة تكمم الأفواه وتحارب حرية الرأي أن يكون صاحب رأي أولاً، ويتمسك به ثانياً، ويستعد للمحاربة من أجله ثالثاً، فمن الثبات على الكلمة والالتزام بها استمد الأبطال التاريخيون قيمتهم ورمزيتهم، من سقراط حتى مبارك النوت، فلم يتهربوا من مواجهة القضاء، أو يتحايلوا على القوانين محاولين تعديلها لمصلحتهم، ولم يتفذلكوا في تفسير ما أبدوه من رأي ليبرروا تخاذلهم وتراجعهم، ولم يبيعوا القضية والكرامة والمبادئ المزعومة بأرخص الصفقات مع ذات السلطة التي خرجوا ضدها وورطوا الآخرين معها. كانوا واضحين وصادقين ومؤمنين حتى النهاية، أما من يظن أنه يتذاكى أو يتشاطر بتهربه من المحاكمة، أو من يحمي زملاءه زوراً وبهتاناً كذلك، ويقوم في المقابل بملاحقة ناقديه ومخالفيه ممن لا يملكون مثله ترف الحصانة، فهو والسلطة التي يدعي معارضتها سواءٌ، بل هو أشد قمعاً وانحرافاً وخداعاً، فكفى عبثاً واستهبالاً.