أفسدتنا السينما الأميركية، عندما تركنا أنفسنا نهباً لأفلامها التجارية، سواء التي تُعرض على الشاشات الكبيرة في الصالات أو التي تطاردنا عبر الشاشات الصغيرة في مخادع نومنا. من ثم، صار البحث عن السينما الأخرى، سواء كانت تنتمي إلى مدارس فرنسية أو ألمانية أو حتى إيرانية وأذربيجانية بمثابة الهاجس الذي يؤرق غالبية المهتمين بالسينما الحقيقية والباحثين عنها. وتدريجاً صارت الأفلام الروائية الطويلة تمثّل عبئاً جديداً على العاشقين لسحر السينما، كونها ونجومها يستأثران، بوضع اليد وحكم الزمن، بالاهتمام، فضلاً عن استحواذهما على الشهرة والجاه والحظوة، فيما تعاني السينما الأخرى، تسجيلية وتشكيلية وروائية قصيرة، ظلماً صارخاً، وتجاهلاً مريراً، وكأنها «ابنة البطة السوداء»، رغم ما يقدمه أبناؤها والعاملون فيها من فن رائع وإبداع جميل يُشار إليه بالبنان!

لهذا السبب تركز جلّ اهتمامي في الفترة الأخيرة على متابعة الأفلام القصيرة في المهرجانات المحلية والإقليمية والدولية، ربما على حساب الأفلام الطويلة المحظوظة والمُدللة، ويبدو أنني لم أكن وحدي الذي تبنى هذا الموقف، إذ اعتراني شعور شبه جازم بأن الأفلام القصيرة باتت «الحصان الأسود»، في نظر قطاع كبير من جمهور المشاهدين، بدليل الالتفاف حولها، والإقبال على الشاشات التي تعرضها، والتجاوب غير المتوقع مع لغتها ومضامينها. حدث ذلك في مهرجان «دبي»، وفي «وهران» سابقاً، ويتكرر في الدورة السادسة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، التي أجبر برنامج عروضها الجمهور، والنقاد والمهتمين، على ضرورة المفاضلة بين متابعة مسابقة الأفلام القصيرة أو مسابقة الأفلام الطويلة، بعدما انطلقت المسابقتان في توقيت زمني واحد، ومكانين مختلفين. وكانت المفاجأة أن حظيت الأفلام القصيرة بإقبال كبير وتجاوب أكبر، وتجلى ذلك في مناقشات أعقبت العروض، وإعجاب طغى على آراء الحضور، واستقبال إيجابي لنتائج لجنة التحكيم، ولجوائز ذهبت إلى مستحقيها.

Ad

من بين 27 فيلماً شملتهم قائمة الأفلام المشاركة في مسابقة الأفلام القصيرة نتوقف عند المميز منها، الذي حصد الانتباه، سواء على صعيد الفكرة أو اللغة، مثلما رأينا في فيلم المخرجة الموريتانية الموهوبة مي مصطفى أخو، التي أدركت أنها لن تستطيع مجاراة القيود الرقابية، فضلاً عن مواجهة العادات الجامدة والتقاليد الصارمة، في حال كشفت عن نية بطلتها المتمردة، ورغبتها في الانقلاب على قوانين مجتمعها المُغلق والمنغلق، فما كان منها سوى أن اتجهت إلى التفكير «خارج الصندوق» فعلاً وقولاً، عبر فيلمها «الصندوق الأول» (موريتانيا / 8 دقائق)، إذ قدمت لنا من خلاله فتاة وحيدة سافرة الوجه في مجتمع غطت فيه الصناديق الكرتونية رؤوس، ومعالم وجوه الجميع، وأصبح محكوماً، ومُسيطراً عليه بواسطة «الريموت كونترول». لكنها رفضت أن تكون جزءاً من القطيع، أو طرفاً في الصراع، وأبت مجاراة مناخ الإذلال، والعبودية، واختارت طريقها بإرادتها الحرة. وطوال الوقت القصير للفيلم كان التكثيف هو السمة، والإيجاز هو اللغة، والصورة أكثر بلاغة من الحوار، والأهم أننا شاهدنا سينما مُدهشة جاءتنا من موريتانيا، وإن لم تحظ بتقدير لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، التي منحت جائزة النيل الكبرى لفيلم «شعري بألوان فرنسية» (الكاميرون/ 21 دقيقة)، ربما لأنه يؤكد أهمية الحرية والانتماء معاً، حيث البطلة التي تبلغ من العمر 17عاماً يحتدم الخلاف بينها وبين والدها لرغبتها في الحصول على الجنسية الفرنسية، بينما يرفض الأب بشكل قاطع. ومع نهاية الأحداث، التي تتسم بإيقاع سريع، يصل الطرفان إلى حل وسط، وتُضحي الفتاة في سبيل العودة إلى الأسرة (والدها وشقيقها الطفل) والبيت (الوطن)، بينما منحت الفيلم الجزائري «قنديل البحر» جائزة أفضل إسهام فني، نظراً إلى أن مخرجه داميان أونوري أدرك خطورة ما ينتظره في حال ارتكن إلى تقديم الفكرة (زوجة في رحلة شاطئية مع ولديها وحماتها تتعرض لجريمة تروح ضحيتها) بشكل تقليدي مستهلك، ولجأ إلى توظيف الصورة لتقديم تجربة فنية في أربعين دقيقة تجمع بين الخيال والواقع، ولا ينقصها الإبداع!

بالطبع منحت اللجنة جوائز لأفلام، مثل «خلينا هكا بخير» (تونس/ 19 دقيقة) إخراج مهدي البرصاوي (جائزة لجنة التحكيم الخاصة)، الذي غلفته مشاعر إنسانية لا تخلو من طرافة (بطل الفيلم المخرج نوري بو زيد)، و«البنانوة» (مصر/ 18 دقيقة) إخراج ناجي إسماعيل (جائزة رضوان الكاشف لأفضل فيلم) الذي بدا أقرب إلى اللوحة الفنية التشكيلية، بألوانه وحجم لقطاته. إلا أن هذا لا ينفي وجود أفلام أخرى جديرة بالإشادة والتنويه، حتى إن لم تنل نصيبها وحظها من الجوائز... وهو ما سنتوقف عنده بتفاصيل أكثر في المقبل من الأيام.