تطل علينا الفضائيات العراقية ومن بينها الفضائية الرسمية العراقية ببرامج عن الرئيس العراقي السابق عبدالكريم قاسم الذي حكم العراق خمس سنوات في الفترة من عام 1958 لغاية 1963، تكيل المديح له وتشيد بإنجازاته باعتباره أفضل من حكم العراق في تاريخه المعاصر.

وقد لاحظت أن برنامج الفضائية العراقية قد تزامن عرضه مع الفترة نفسها التي أثيرت فيها الضجة حول خور عبدالله من العديد من الشخصيات العراقية العامة التي أدت الى تهييج وإثارة الجماهير العراقية، وقد كانت معظم اللقطات تركز على تصريحاته المتعلقة بأطماعه في الكويت.

Ad

وكنت آمل أن يكون هذا التزامن قد أتى عن طريق المصادفة، إلا أن تعاملنا مع العراق في مناسبات عديدة سابقة يدعونا إلى التخلي عن النوايا الحسنة ويجبرنا على توخي الحيطة والحذر في التعامل مع هذا الموضوع، فما عرضه البرنامج ينبئ بوجود نوايا متعمدة غير طيبة من شأنها إعادة الأذهان إلى التوترات التي كانت تشوب العلاقات بين البلدين من جراء تلك الأطماع.

وما يذهب إليه البرنامج أمر يدعو في مجمله إلى الاستغراب والسخرية، وليس له أي أساس من الصحة والحقيقة، فقاسم العراق لم تكن له أي حسنة، بل إن حسنته اليتيمة إن كانت تعتبر حسنة، تتمثل بتوحيد العراقيين سنتهم وشيعتهم في أطماعهم بضم الكويت واعتبارها قضاءهم السليب، فهو لم يكن طوال فترة حكمه مثالا للحاكم المحترم بل العكس هو الصحيح، ولا أقول ذلك بسبب تهديداته بغزو الكويت فحسب، بل لأسباب أخرى تتعلق بالعراق نفسه كما سنرى لاحقا.

وبالنسبة إلى أطماعه القذرة في الكويت فهي وإن كانت القشة التي قصمت ظهره وعجلت في رحيله إلى الأبد غير مأسوف عليه، إلا أن الأسباب التي سنوردها لاحقا وتتعلق بواقع السياسة العراقية تؤكد أنه كان شخصا سيئا إلى أقصى حد، قاد شعبه وبلده إلى الهلاك والدمار، وأدخلهما في نفق مظلم لم يخرجا منه حتى الآن، والشواهد كثيرة منها:

1- وصوله إلى السلطة باستيلائه عليها بانقلاب عسكري تخلص فيه من نظام الحكم الشرعي الذي كان قائما في ذلك الوقت بأبشع الطرق الوحشية التي أدمت القلوب وأدمعت العيون من هول بشاعتها وفظاعتها.

2- كان يحكم العراق بالحديد والنار بطريقة دكتاتورية تطابق تلك التي حكم بها صدام ولا فرق بينهما.

3- تسخيره لماكينته الإعلامية لتمجيده والإشادة به، والتي دأبت على سبغ ألقاب وتسميات عليه لا تختلف عن تلك التي تطلق على عتاة الدكتاتوريين كإطلاق لقب الزعيم الأوحد، وماكو زعيم إلا كريم، وغير ذلك من التسميات الأخرى، وعلى هذا النهج سارت ماكينة صدام حسين الإعلامية.

4- استخدامه لأبشع الوسائل للتخلص من معارضيه، فهو الذي يرجع الفضل إليه في ابتكار تقنية السحل في التخلص من معارضيه خلال ثورة الشواف في الموصل.

5- اتسمت مشاريعه بالفشل الذريع، ومن بينها مدينة الثورة التي أنشأها وأطلق عليها بعد ذلك مدينة صدام وبعدها مدينة الصدر. ويعود سبب إنشائها الى سياسة الإصلاح الزراعي الفاشلة التي اتبعها وأدت الى هجرة الفلاحين من الريف الى بغداد، واستقرارهم في منطقة أطلق عليها اسم مدينة الثورة، وهذه المدينة زرتها في زمن صدام ولم أر في حياتي مدينة تماثلها في البؤس والكآبة والقذارة في العالم، وما ينطبق على هذه المدينة ينطبق على سائر مدن العراق دون استثناء بما فيها بغداد، وكأنك لا تعيش في دولة نفطية يفترض أن تكون من أغنى دول العالم، ولا بد من القول هنا إن سياسة الإصلاح الزراعي هي التي أدت إلى انهيار الزراعة في العراق وتدميرها.

6- تميز عهده بأمور تتسم بالسخرية والهزل كإنشائه محكمة الثورة أو ما يسمى محاكمة المهداوي، والتي كان القصد من إنشائها محاكمة خصومه، وكانت قمة في السخرية والمهزلة. وأتمنى بل أتحدى وسائل الإعلام العراقية أن تطلعنا على مقتطفات صوتية لطريقة إدارة جلساتها والنقاشات التي كانت تدور بها.

7- كان العراقيون أنفسهم يتندرون على العلاقة التي كانت قائمة بينه وبين شريكه وغريمه في الحكم عبدالسلام عارف، حيث كانوا يصفون أحدهما بنصف العاقل والآخر بنصف المجنون، ولا أعرف بعد ذلك كيف يسمحون لأنفسهم بالمدح والإشادة بإنجازاته المزعومة وهو نصف عاقل أو نصف مجنون.

8- أدت سياسته الخارجية إلى عزل العراق عن محيطه الإقليمي والدولي.

والواقع أن كل ما تطرقت إليه لا يمثل سوى القليل من مساوئ ذلك الزعيم الذي خلا عهده من أي إنجاز، بل كان مليئا بالمساوئ التي أدت إلى إلحاق الدمار المرعب بالعراق، وإلى الحال التي وصلت إليه الآن، وسأكون شاكرا لأي شخص يدلني على أي إنجاز مهما كان تافها أو هزيلا.

وعلى ذكر الإنجازات، أضيف أنه إذا كان له إنجاز فإنجازه الأول والأخير الذي نجح فيه نجاحا باهرا لا نظير له في تاريخ العراق يتمثل بتوحيد مواقف الشعب العراقي بمكونيه الشيعي والسني بتأييدهما المطلق لمطالباته بالكويت. وتاريخ العراق يشهد أنهما يتخذان موقفا واحدا في دعم أطماعه الشريرة بضم الكويت، فهذا التاريخ يشهد أن هذين المكونين لم يتفقا فيما بينهما مطلقا على أمر ما، ويكنان كراهية بغيضة لبعضهما وصلت إلى ارتكاب مذابح ومجازر وحشية ضد بعضهما، إلا أن هذه الكراهية تتحول فجأة إلى حب متبادل عندما يصل الأمر إلى موضوع الكويت وينسيان كل ما كان قائما بينهما، والتاريخ يؤكد ذلك في مرات عديدة من بينها:

1- تعاطف عدد كبير من فصائل المعارضة الشيعية مع غزو صدام للكويت، ولم تتخل هذه المعارضة عن موقفها الباهت والخجول إلا بعد الانتفاضة الشعبية بعد طرد صدام من الكويت وارتكابه المجازر والمذابح بحق هذه الطائفة.

2- ضمت القائمة التي نادت بحقوق العراق التاريخية في خور عبدالله شخصيات من الطائفتين، وهذه الشخصيات كانت على عراك وخصام مستديم بينهم إلا أن أطماعهم الجشعة هي التي جمعتهم، وكأنهم يتخذون من عبارة "الكويت تجمعنا" شعارا لهم باعتبارها تمثل تجسيدا صادقا لما يصبون إلى تحقيقه، علما أنني قد طالبت بمحاكمتهم دوليا في مقال سابق، وأضيف بضرورة قيام الدولة باتخاذ إجراءات لمنع دخولهم إلى الكويت باعتبارهم أعداء للكويت.

3- من ضمن ما أذكره عن الغزو عندما كنت في تونس أن أحد وزراء العهد الملكي في العراق اسمه "الجمالي" قد خرج عن صمته خلال مدة إقامته، وكتب مقالا في إحدى الصحف التونسية، يؤيد ويشيد بقوة بالغزو على الرغم من أنه كان منفيا عن بلده سنين طويلة، واضطهد من جميع الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق منذ الإطاحة بالنظام الملكي.

ومنعا للإطالة أختتم بتوجيه الدعوة إلى الفضائيات العراقية، وأطلب منها عند إنتاج مواد إعلامية وثائقية أن تتوخى الحيطة والحذر عند اختيارها مواضيع هذه الأفلام، بحيث تكون مبنية على الصدق والموضوعية، وبذلك تكون قد أنجزت عملا مفيدا للعراق بدلا من تلويث عقول العراقيين بأعمال تؤدي إلى المزيد من تزييف الحقائق وتزويرها مثلما فعلت في الفيلم موضوع هذا المقال.