هل تغيّر الموقف من العقل في الفكر الإسلامي الحديث؟

Ad

بدأت عوامل جديدة منذ مطالع القرن التاسع عشر الميلادي تعمل متضافرة لزحزحة الموقف المتصلب من العقل في الفكر الإسلامي. ويأتي في مقدمة هذه العوامل الانفتاح على الحضارة الغربية الحديثة، وبداية التساؤل عن أسباب نهوضها، التي تتلخص، ولا شك، في تحرير الفكر وتمجيد المنهج العقلي. ومن هنا أعاد المسلمون طرح السؤال القديم: هل يمكن فتح باب الاجتهاد بعد أن أغلقه سلفهم منذ قرون؟

ويبدو أن الظرف أصبح مواتياً لظهور بوادر لحلحلة الفكر الإسلامي بما يتناسب ومستجدات العصر، وذلك بجهود مفكرين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال وغيرهم. تلا ذلك جهود متأخرة تدعو إلى وجوب الاجتهاد في الشريعة لمسايرة متغيرات البيئة والمجتمع والعصر، والعودة إلى العقل كمنهج لا بد منه في عملية الاجتهاد وإلى الحرية الفكرية. ولكن هذا التوجه لم يمرّ بسلاسة، إذ برزت أصوات دفاعية تحدّ من انطلاقته، حين قننت الاجتهاد الفكري وجعلت له شروطاً وحدوداً تكون بمثابة الرقابة على العقل، الأمر الذي يدل على وجود بقايا من تخوّف من هذا العقل ومنطقه ورثه الفكر الإسلامي المعاصر من الماضي.

ولا بد في هذا المقام من الإشارة إلى تعريف العقل الذي اهتمت الكاتبة رزيقة عدناني بتوضيح معنييه المختلفين، وأي المعنيين تبناه المسلمون، وأيهما تحفظوا إزاءه. إذ ترى الكاتبة أن المسلمين عرفوا العقل بمعناه اللغوي، الذي يعني الرزانة والانضباط وحسن النظر، والعاقل هو الذي يعقل عواطفه أي يربطها ويحسبها. وهذا المعنى اللغوي عند العرب يخالف تماماً المدلول العلمي الذي يعني الشروط المنطقية للتفكير، وأن فهم المقدمات كما في الرياضيات والمنطق يؤدي إلى الوصول إلى النتائج. وترى الكاتبة أن العرب قبل الإسلام لم يعرفوا معنى العقل العلمي الذي يتحرى البرهنة والاستدلال المنطقي، وحين عرفوا ذلك بعد اتصالهم بالثقافات الأخرى، وجدوه دخيلاً على ثقافتهم، فانتهوا إلى رفضه والتحذير منه.

ولعل أهم ما يعني الكاتبة في مسألة تعطيل العقل العلمي عند المسلمين هو ما استنتجته من مخاطر قد يقع فيها العقل المفكر إزاء المسائل والمشكلات، ويأتي على رأس هذه المخاطر الوقوع في التناقض المخلّ. وتحت عنوان "التناقض" في الفكر عند المسلمين، تسرد الكاتبة جملة من الشواهد التي طالما جادل فيها علماء الدين، دون أن يخلوا جدالهم من التناقض، وفي مقدمتها أحكام الميراث وما يتفرع منه من قضايا أخرى تضع المرأة في زاوية حرجة تكثر فيها التساؤلات والتناقضات وعلامات التعجب.

ثم تخلص المؤلفة إلى ضرورة النظر في الأحكام الشرعية من منظور العصر، الذي بتغيّر ظروفه لا يعود هناك سبب للإجحاف في مسألة الإرث. وهي تشير هنا إلى ضرورة القياس بما تم تجاوزه واستبداله من أحكام شرعية ما عادت تستجيب لشروط الحياة الراهنة، مثل مسألة قطع يد السارق، وانتهاء نظام الرقّ، ومسألة "المؤلفة قلوبهم" الذين انتفت الحاجة إلى وضعهم في الحسبان بعد زوال خطرهم. إن عقلاً يعي مقدمات منطقية مثل المقارنة والمماثلة والقياس لا يمكن أن يقع في هذا التناقض المخلّ، والفكر الذي يبحث في الشريعة يحتاج أن يكون فكراً واعياً بشروط العقل التي تجنبه الوقوع في التناقضات.

تخلص الكاتبة في نهاية المطاف إلى تأكيد أن الإسلام عقيدة وشريعة، أما العقيدة وأسسها الإيمانية فهي ثابتة ومكانها القلب، وأما الشريعة، وهي ما يخص مسائل الحياة المتغيرة، فهي متاحة للشرح والتأويل عبر القرون بواسطة الجهد البشري، لذلك تظل المعرفة بأحكام الله وشرائعه إنسانية وناقصة ونسبية. بل لعله من الخطأ بمكان أن نعتبر جهد الإنسان واجتهاده في أي عصر من العصور مقدساً ونهائياً.

"لقد بات المسلمون اليوم وخاصة فئة الشباب، يطالبون بحقهم في تفسير القرآن بمنظار منظومة قيمهم وفلسفتهم الحياتية الجديدة، لأن ذلك هو السبيل الذي يمكنهم من أن يشعروا أن هذا الدين هو دينهم الذي وُضِع لهم مثلما شعر الأولون أنه دينهم الذي وُضِع لهم. عندها فقط يستطيعون القول إنهم أصحاب دين صالح لكل زمان ومكان".