من الغريب ونحن في القرن الحادي والعشرين أن بعض من يفتقرون إلى الذائقة الفنية، وكثير منهم يترددون على المعارض الفنية، ينعتون الأساليب الحديثة في الفن بما لا يليق، ويسخرون من الفنانين الذين اجتهدوا في ابتكار صيغة جديدة لأفكارهم وإبداعهم، وذلك لافتقارهم إلى معرفة وإدراك ما تحمله الأعمال الفنية الحديثة الأساليب من أفكار وفلسفات، ظنا أن ما يشاهدونه في هذه المعارض من لوحات وتماثيل إنما هو «شطحات» فنان يعبث بمشاعرهم، وهذا في الواقع لا ينطبق على كل ما أبدعه الفنانون من مدارس فنية خلال القرن الماضي وما تلاه.

قبل أن نتوسع في قراءة هذه الحالة فإننا نضم صوتنا إلى الذين يرون في أعمال «بعض الفنانين» عبثاً وسخرية من عقل المتلقي حين يصدرون أعمالا لا يحكمها عقل ولا نبض قلب فنان مبدع، ذلك أن الكثيرين ممن تكتظ بهم الساحة الفنية قد «استسهلوا» طرق الطرح دون أن يملكوا ملكات الإبداع التي جعلت الفنانين المحدثين من أصحاب الأساليب الفنية عظماء وروادا.

Ad

الحياة في تطور مستمر، ولكل فترة زمنية صفات، وقد كانت الاختراعات والاكتشافات الكثيرة وراء تغيير أساليب الحياة ومنها الفنون، واحتلت التقنيات حيزا من أدوت الفنان، الأمر الذي فرض عليه أسلوبا مغايرا لطرح أفكاره الفنية وإبداعاته بتلك الأدوات الحديثة التي هي أكثر يسرا في تحقيق النتائج الأفضل والأسرع.

الفنون ومجالات الإبداع الأخرى جميعها بجانب وعي الفنان وعبقريته تحتاج إلى معرفة واطلاع على تجارب الآخرين وعلى منابع أسرارها التي استقى منها المبدعون أفكارهم، وأعادت ملكاتهم إبداعها بصورة أكبر وأكثر تعاملاً مع سمات العصر الحديث، والتي استفادت من هذه الاكتشافات والاختراعات التي لامست كل أوجه الحياة لتصنع لها صفات ومميزات جديدة أكثر إشراقا ويسرا، ومنها إبداع المبدعين من الفنانين الذين كانوا عبر الزمن هم من سجل الحضارات بأدق تفاصيل الحياة فيها، كما وصلتنا وأصبحنا امتدادا لها.

بابلو بيكاسو، وهو أعظم فناني القرن العشرين الذين ابتكروا أساليب فنية مازالت قائمة يدرسها الفنانون ويتعلمون منها ويبدعون فيها أيضا، يقول: «أنا لا أرسم ما أرى... بل أرسم ما أعرف». إذاً الرسم في المدارس الفنية الحديثة لا يجب بالضرورة أن يطابق الواقع المرئي بالعين في جوهره العظيم كما في الأساليب الفنية التقليدية مثل التعبيرية أو الواقعية وغيرها مما ألفتها العين سنين طويلة في زمن مغاير، إنما ينبع من معرفة المبدع «الفنان» بما حوله من معرفة عميقة بجوهره، يستخرج منه ما لا تراه عين الآخرين، ويعيد صياغته برؤية يلبسها ثوبا إبداعيا جديدا لتستقر مرة أخرى في وجدان ومشاعر المتلقي بمعنى ومفهوم جديدين، يلتقيان مع بعض ما في نفسه الباحثة عن الأسئلة المحيرة فيجد الجواب فيها.

فمثلا «المدرسة التكعيبية» التي وُلِدت في فرنسا على يد بابلو بيكاسو وجورج براك وخوان جريس، هي اتجاه فني ظهر في فرنسا في بدايات القرن العشرين الذي يتخذ من الأشكال الهندسية أساسا لبناء العمل الفني، حيث قامت هذه المدرسة على الاعتقاد بنظرية التبلور التعدينية التي تعتبر الهندسة أصولا للأجسام، وذلك على أسس علمية ومعرفية عادت بما هو مألوف إلى أصوله الهندسية التركيبية والتحليلية.

الذين يعانون صعوبة في فهم الأساليب الجديدة في الفن هم في حاجة إلى ثقافة فنية تعينهم على فهم كل جديد، وهذه مسؤولية متشابكة بين البيت والمدرسة وأسلوب الحياة اليومية، ولا نغفل أهمية وسائل الإعلام التي مازالت فقيرة فيما تمنحه من مساحة للفن التشكيلي كما تمنحها لغيره من الفنون.

عندئذ سيعرف المتلقي أن الفنان يعكس ما لديه من معرفة مستنبطة من جوهر الأشياء المألوفة، لكنه لم يدرك هذا الجوهر وقيمته، إلا حين تجلى في عمل فني... وهو من سمات العصر ومتطلباته.

* كاتب فلسطيني - كندا