لكل زمان أشراره ومصائبه، لذا عادة لا تشغلني المصيبة، لا يأخذني فضول معرفة ما حدث وكيف حدث ومن هو المتورط، بقدر ما يشغلني رد الفعل الإنساني حول الحدث، كيف يتعامل معه أطرافه المتورطون فيه. الشر يأتي ويذهب، المصائب والجرائم والفساد دوماً ما ستبقى جزءاً من حياتنا، لكن ردود أفعالنا، تعاملنا معها، هما ما يصنعان التاريخ ويحكيان القصة الحقيقية.

ورغم ذلك فإن معرفة المتورطين في قضية الإيداعات المليونية ملحة الآن، الشخوص والظروف والأحداث كلها معلومات غاية في الأهمية لتحديد توجهنا المستقبلي القريب، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وللحفاظ على ما تبقى من كراماتنا ككويتيين تتسرب أموالنا من بين أيدينا لشراء الولاءات وتسوية الصفقات وتمرير الرغبات، أموالنا التي تذوب في كؤوس فساد باردة ليستقوي بها قطب على قطب، ولتنتصر بها جبهة على جبهة، فيما نحن نعيش أحداث حياتنا اليومية بمشاغلنا الصغيرة وصعوباتنا المعيشية المزمنة. لربما معرفة الراشي هي أهم من معرفة المرتشي، فهو الطرف الأقوى، هو المحرض القادر على لف رؤوس الناس وليّ الأعناق تجاه مصالحه، هو القوة التي تلوح بالملايين أمام أعين "متوسطة المستوى المعيشي"، ملايين يمكنها أن تغير حيواتهم للأبد، تحول مسار مستقبل أبنائهم وتضمن لهم "دورا" مرتفعا في عمارة الحياة لم يكونوا ليحلموا به. هذا عرض مؤزم، يسهل تقريع من يستسلم له ويصعب رده ممن يتعرض لإغرائه.

Ad

ولكن لتحديد توجهنا المستقبلي البعيد نحتاج لمعرفة شيء أعمق، ولرؤية المشهد من زاوية أكبر. نحن الشعب الذي تسرق أمواله ونُركل كما الكرة في ملعب الكبار، لمَ نحن لسنا أشد غضباً؟ لمَ نحن لسنا في حالة ثورة إلى أن يسقط كل من ورد اسمه في هذه الفضيحة؟ نحن نرى ونسمع ونشهد، نعلم وهم يعلمون أننا نعلم، ومع ذلك يعاد انتخاب المذكورين، ويعاد تعيين المشكوك في أمرهم، ولا كأن عينا رأت أو أذنا سمعت. إلى اليوم، لم يظهر أحد المتورطين في الموضوع في مؤتمر أو في برنامج تلفزيوني أو على صفحة جريدة في بيان هو أضعف الإيمان ليوضح أو ينفي أو يكشف ذمته المالية، ليعلن أنه سيقاضي الجريدة التي نشرت الأخبار. لا شيء من المتورطين، لا شيء من الحكومة، لا شيء من الشعب، لا شيء سوى مجلس أمة بأعضاء غريبي الأطوار يناقشون الكارثة بذم وقذف وقدح، نواب لا يبدون حزينين بسبب الفساد غاضبين من أجل الكرامات، بل نواب بضغائن شخصية ينفسون عنها بأسوأ التعابير الإنسانية. حياتنا سيريالية غريبة، تحدث فيها أشياء فظيعة ولا أحد يتكلم عنها، لا أحد يلتفت تجاهها، مجرد "ضوضاء بيضاء" كما التي يتحدث عنها دون ديليلو في روايته الشهيرة بذات العنوان. حياتنا ضوضاء، بلا صوت.