مع مطلع القرن الحادي والعشرين، كان بإمكاننا أن نتوقع نهايات الكثير من العهود، وأن نتقبل تلاشي الكثير من المفاهيم الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، أو تعرضها لتغيرات فارقة.

عندما تتعلق صيغة "نهايات العهود" بالمفاهيم المادية، والأداة والآلة، يجب ألا يزعجنا ذلك كثيراً؛ بل على العكس تماماً؛ فقد انتهى عصر السفر على الدواب، وكان ذلك مقبولاً ودليلاً على تطور البشرية، ويكاد، في هذه الآونة، عصر الصحافة المطبوعة أن يمضي، ولا نرى بأساً في ذلك، إلا من زاويتي الانعكاسات الاقتصادية على صناعة الصحافة، أو تغير أنماط التعرض لوسائل الإعلام.

Ad

لكن "العهود" التي بدأت تزحف كما الأفيال إلى مقابرها، تتضمن أشياء شديدة الحيوية، وشديدة الارتباط بمفهوم الإنسانية، وعلاقة الإنسان بالكون، بل بجوهر الإيمان.

يرى أستاذ الفيزياء النظرية، في جامعة "نيويورك سيتي"، "ميشيو كاكو" أن أربعة اختراقات بشرية صنعت مسيرة التطور العالمي، وحددها في اكتشاف قدرة البخار، ثم اكتشاف الكهرباء، والتكنولوجيا وخصوصاً تجليات "الإنترنت"، وصولاً إلى الاختراق الرابع المتمثل في "الذكاء الاصطناعي".

يقول "كاكو" إن "الإنترنت" سيكون في عدسات العيون، وبالتالي ستكون المعرفة مجانية وفورية، بحيث ستلتقي شخصاً للمرة الأولى، فتأخذ عدسة العين صورة له، وتضعها على محركات البحث الموصولة بـ"الإنترنت"، لتعرف كل المعلومات المتوافرة عنه.

لن يكون في المستقبل مكان لبطاقات التعارف، أو عبارات من نوع "لا أتذكر اسمك" أو "أين تقابلنا آخر مرة". بحسب "كاكو"، لن يخفق أي منا في فهم اللغة الصينية أو السواحلية وإدراك معانيها، ولن يحتاج إلى مترجم أيضاً، لأن الاتصال المباشر ببرامج الترجمة، سيمكننا من الحصول على ترجمة فورية لكل ما نسمعه من اللغات الحية والميتة.

ليس هذا فقط، لكن ما يطرحه "كاكو" يبدو أكثر إثارة للاهتمام عندما يصل إلى الحديث عن "الذاكرة" و"النسيان"؛ فمع استمرار هذا النوع من البحث والتطوير، سيمكن أن نتحدث عن "نهاية عهد النسيان"، خلال العقد المقبل على الأرجح.

فـ "النسيان" ليس سوى "عدم القدرة على استرجاع المعلومة عند الحاجة إليها"، وهذا الخلل، في حد ذاته، يبدو في طريقه إلى "النسيان".

وبمعنى أكثر بساطة؛ فإن الإنسان يقوم بتخزين المعلومات في ذاكرته على شكل شبكات متداخلة، حيث توجد في كل شبكة معلومات تتعلق بمفهوم معين، وترتبط بعض هذه الشبكات مع بعض بعلاقات معينة، وعند التفكير في مفهوم محدد، يتم فتح الشبكة المتصلة بهذا المفهوم، والشبكات التي تحتوي على مفاهيم قريبة منه، أما "النسيان" فيحدث عندما يتم قطع هذه الشبكة بسبب حدوث تشوش أو تدخل يضعف القدرة على التركيز. ستتكفل علاجات "الخلايا الجذعية" بمنع هذا الخلل أو الحد منه إلى أقصى درجة، إذ إنه لا يخرج عن أسباب محددة ومعلومة؛ مثل سوء التغذية، أو رداءة الطعام، أو الإدمان على الكحول، أو التدخين، أو الاكتئاب، أو "الزهايمر"، أو السكري، أو اضطرابات الدماغ.

وإذا أخفقت علاجات "الخلايا الجذعية" في ذلك، فإن أنظمة "الذكاء الاصطناعي" لن تخفق؛ إذ سيتم تخزين كل تلك المعلومات على شرائح ذكية، وسيتم عقد علاقات ارتباط قوية بين المفاهيم المتقاطعة والمتقاربة، وسيتم استدعاء المعلومات، بالصوت والصورة، في ثوان.

لكننا كثيراً ما نسعى قاصدين إلى النسيان؛ فها هو "واسيني الأعرج" يحضنا على أن نتعلم كيف ننسى: "وحده النسيان يشفي الذاكرة من أوجاعها القاسية"، كما يعتقد "عبد الرحمن منيف" أنه "لولا النسيان لمات الإنسان لكثرة ما يعرف، ولكثرة الهموم والعذاب والأفكار التي تجول في رأسه". يبقى هذا ضرباً من ضروب التأويل الثقافي لهذا المفهوم... "النسيان"، لكن إثباتات علمية أقرت بذلك، حين اكتشف باحثون أن كثيراً من العلاجات للصدمات النفسية والعاطفية والحياتية، يكمن في "التدرب على النسيان".

يتسق هذا بشكل أو بآخر مع نصيحة "ستيفن كوفي": "تعلم كيف تنسى لتعيش... تعلم فن النسيان"، ومع الخلاصة التي يقولها "جبران خليل جبران" بقطع واطمئنان: "النسيان شكل من أشكال الحرية"، وهو ما يأتي العلم التجريبي ليثبته بوضوح، في تحديده عامل "الترك والغمور"، كأحد العوامل التي يلجأ إليها البعض، للتخلص من المآسي والتجارب الصادمة في حياتهم، عبر إيداعها بعيداً في الغياهب المظلمة في العقل والوجدان.

يعتقد نيتشة بـ"عدم وجود سعادة وكبرياء وصفاء ذهن من دون نسيان"، وثمة أساس قانوني وأخلاقي يؤطر هذا الحق... الحق في النسيان، وهو الأمر الذي دعا إلى المطالبة بسن قوانين لـ"النسيان الإلكتروني" في أكثر من بلد أوروبي.

في منتصف ستينيات القرن الماضي، اعتبر بروفيسور القانون في الجامعة الفرنسية "جيرار ليون كين" أن النسيان يمكن أن يكون "ضمانة للسلم الاجتماعي، حين يمس العقوبات والإدانات والحظر المفروض على أشخاص أو جماعات يجري تأهيلها"، قبل أن يتم التوافق على "مبدأ بروكسل" القائم على "الحق في أن ننسى"، باعتبار أنه يجب ألا يتضرر الناس بسبب أخطاء ارتكبوها في الماضي البعيد.

وفي عام 2014، أصدرت محكمة العدل الدولية في لوكسبمورغ قراراً يتيح للأشخاص بمطالبة محركات البحث الكبرى بحذف معلومات تخصهم، إذا ثبت أنها تؤثر في مكانتهم ونظرة الناس لهم، وهو حكم أكدته محكمة إيطالية لاحقاً في 2016، حين قضت بإلزام مزودي خدمات الإنترنت بحذف شريط مُسرب يصور علاقة جنسية لسيدة تُدعى "تيزيانا كانتوني"، بعدما قالت إنه "يشعرها بالعار".

لكن يبدو أن "عهد النسيان" يشرف فعلياً على الأفول، ليس بفعل تجليات "الذكاء الاصطناعي"، واختراقات العلاجات بـ"الخلايا الجذعية" فقط، لكن كذلك عبر "هيمنة الداتا"، المحفوظة على "الإنترنت"، التي حولتنا جميعاً إلى صفحات مفتوحة يمكن اختراقها وجمع كل البيانات عنها.

لذلك، تنظر محاكم أوروبية وأميركية قضايا تتعلق بحق الأفراد في النسيان، ويدعو أعضاء في البرلمان الفرنسي إلى سن قانون يتعلق بصيانة الخصوصية عبر حذف البيانات غير المرغوب فيها، لكن كل تلك المحاولات تبدو عاجزة عن إنقاذ مفهوم النسيان من مصيره المحتوم... النسيان.

* كاتب مصري