تكشف صور مراسم افتتاح متحف طهران للفنون المعاصرة في عام 1977 عن بلدٍ ما عاد موجوداً. يظهر فيها رجال يرقصون بكل جرأة وهم يرتدون سراويل ضيّقة ويضعون نظارات داكنة، بينما ترتدي فنانات استعراضيات ملابس صوفية حمراء بكل بساطة. تظهر معالم المتعة التي كانت سائدة خلال السبعينيات بكل وضوح في الصور وتثبت أن جيلاً شاباً معاصراً كان في طور النشوء في طهران خلال تلك الحقبة.

التقطت المصورة الإيرانية جيلا ديجام تلك الصور التي تُعرَض الآن في معرض {بوكس فريروم} في حي {فريدريتششين} في برلين. في الأصل، التُقِطت الصور كي ترافق المعرض الذي كان سيُقام خلال شهر ديسمبر في متحف {جيمالدي غاليري} في برلين لعرض أعمال فنية من متحف طهران للفنون المعاصرة. اعتُبِر ذلك المعرض رمزاً للتقارب الثقافي بين الغرب وإيران غداة الاتفاق النووي المزعوم.

Ad

بدأت إمبراطورة إيران في تلك الحقبة، فرح بهلوي، بتجميع تلك الأعمال الفنية خلال السبعينيات سعياً وراء تحقيق حلمها بتحويل إيران إلى بلد معاصر ومتعدد الثقافات مع أنّ النظام الإيراني كان ظالماً على نحو وحشي. جاءت لاحقاً ثورة العام 1979 كي تقضي على ذلك الحلم، لكن صمدت الأعمال الفنية رغم الظروف كافة، وهي تقبع اليوم في قبو المتحف الذي يصعب الوصول إليه.

حصل وزير الخارجية الألماني السابق فرانك فالتر شتاينماير خلال زيارته إلى طهران في عام 2015 على الإذن بعرض 60 عملاً فنياً إيرانياً ودولياً من تلك المجموعة في برلين، بما فيها لوحة لمارك روثكو ولوحة لجاكسون بولوك تحمل اسم {جدارية على أرضية هندية حمراء}. قال هيرمان بارزينغر، رئيس {مؤسسة التراث الثقافي البروسي}، إنه كان يأمل أن يعزّز ذلك المعرض المحتمل الحوار مع إيران ويدعم {القوى الليبرالية والمجتمع المدني}. لكن في النهاية، لم يصدر إذن رسمي بإرسال الأعمال الفنية إلى برلين.

اليوم تبلغ فرح بهلوي 78 عاماً وتعيش في المنفى منذ عام 1979. تستقبل الضيوف في شقتها في باريس وتحيط بها قطع فنية معاصرة وصور لعائلتها.

هل كنتِ لتسافري إلى برلين لرؤية معرض الأعمال الفنية التي جمعتِها في إيران؟

طبعاً! كنتُ لأسافر حتماً إلى برلين كي أزور المعرض، لكن بعد الافتتاح الرسمي. ما كانوا يستطيعون منعي. إنه بلد حرّ!

هل تقصدين نظام آيات الله في طهران؟

نعم. كنت أهتم بالمعرض لسببين. أولاً، كان ليكشف عن جوانب الحياة الإيجابية قبل الثورة، في عهدنا. ثانياً، انشغل الناس ووسائل الإعلام فجأةً بالتكلم عني مجدداً وعما فعلته أنا وزوجي بدل أن يتكلموا عما يفعله النظام الراهن اليوم.

رفضت الحكومة الإيرانية إعطاء الإذن بخروج المجموعة الفنية من إيران. هل يخاف منك آيات الله حتى الآن بعد 38 سنة على رحيل محمد رضا شاه بهلوي من إيران؟

يتكلّم كثيرون حتى الآن عن زوجي. تتجدّد طاقتي وشجاعتي حين يأتي الإيرانيون في شوارع باريس والولايات المتحدة لتقبيلي ومعانقتي فجأةً، لا سيما الشباب منهم، أي الأشخاص الذين وُلدوا بعد رحيلنا. من خلال الإنترنت والتلفزيون، يعرف هؤلاء ما كانت عليه إيران في عهدنا ويعرفون ما كانت لتصبح عليه اليوم ويلومون أهاليهم على ما حصل.

بعد إلغاء المعرض، هل فوّتت إيران ودول الغرب وألمانيا فرصة حصول تقارب حقيقي؟

إذا أردنا إقامة حوار لمساعدة إيران على الانفتاح، لن يكون عرض أعمال بيكاسو كافياً! بل يجب أن نتحرك داخل البلد ونعمل على توسيع هامش الحرية وحقوق الإنسان. سبق واستأنفت ألمانيا تعاملها مع إيران، وأعتبر هذا التطور أهم من أي أمر آخر.

لماذا بدأتِ بشراء أعمال فنية معاصرة حين كنت تحضّرين مجموعتك؟

في بداية الستينيات، قصدتُ معارض فنية كثيرة وقابلتُ فنانين واشتريتُ أعمالهم. كان أثرياء إيران يبتاعون الفنون الإيرانية القديمة بدل أعمال الفنانين المعاصرين. قالت لي رسّامة: {حبذا لو نملك مكاناً دائماً لحفظ أعمالنا الفنية}. هكذا خطرت على بالي فكرة بناء متحف للفنانين الإيرانيين. وما المانع من عرض أعمال فنية أجنبية أيضاً بما أن بقية بلدان العالم تعرض الفنون الإيرانية في متاحفها؟

جاءت أمينة المجموعة الفنية، دونا شتاين، من الولايات المتحدة، وبدت عروض الرقص خلال حفلة الافتتاح سابقة لأوانها: كان بعضها فاضحاً واستفزازياً، أقلّه بالنسبة إلى بلد تقليدي ومحافظ مثل إيران في تلك الحقبة. كان الناس فقراء في معظمهم. هل كنت تعيشين في فقاعتك الخاصة؟

لا أظنّ ذلك. لم تكن إيران بلداً محافظاً. لا أعرف ما يدفع بعض الناس إلى اعتبار أنّ الغرب وحده يستطيع افتتاح متاحف فنية معاصرة وحديثة. كنت أسافر كثيراً في إيران وأتكلم مع الناس. كان زوجي يعمل على دفع البلد إلى التقدم وسمّى مشروعه {الثورة البيضاء}.

إضعاف التقليديين

كان برنامج تحديث البلد يهدف إلى إضعاف نفوذ التقليديين.

كنا نريد أن نتحوّل إلى بلد معاصر. أطلق زوجي خطة استصلاح الأراضي لإنهاء النظام الإقطاعي وإعطاء حقوق متساوية للمرأة والعمّال وتأميم الغابات وإمدادات الماء وتحسين التعليم والمستشفيات والمكتبات والاقتصاد والصناعة: أردنا أن نحرز التقدّم. لكن عارض المتدينون، من أمثال آية الله الخميني، تلك الأهداف كلها طبعاً.

كتبت صحيفة أميركية في تلك الفترة أن افتتاح متحف طهران للفنون المعاصرة كان أشبه بافتعال صدام بين واحدة من أقدم حضارات العالم والعالم الغربي المعاصر خلال السبعينيات.

من ناحية معينة، يعكس هذا الرأي استخفافاً بالإيرانيين. يتمتّع الإيرانيون بمستوى مرتفع من الثقافة والتاريخ. بُنِيت {برسبوليس» على يد عمال مأجورين وليس «عبيد». كذلك كانت أسطوانة كورش الكبير في القرن السادس قبل الميلاد مرجعاً لميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. يقول الناس: «تحرّكتم بسرعة فائقة». لكن أي حكومة تقدّمية لا تريد التحرك بسرعة؟ أتذكّر أنني تحدّثتُ إلى هنري كسنجر في مصر منذ بضع سنوات وقلتُ له: ربما كان يجب أن نعزز انفتاح المجتمع قبل خمس أو ست سنوات كي لا تقع الثورة. لكنه أجاب أنّ الثورة كانت لتندلع حينها قبل خمس أو ست سنوات.

تشمل المجموعة الفنية لوحة جريئة جنسياً. هل كان هذا المشهد لائقاً بالنسبة إلى إيران في السبعينيات؟

لم يحصل أي رد فعل تجاه هذا النوع من اللوحات حين فتح المتحف أبوابه. كان الجميع مسرورين وفخورين. ثمة من كان يرفض المثليين حينها. صحيح أنهم كانوا موجودين، لكن لم يكن حضورهم واضحاً بقدر ما هو عليه راهناً في أوروبا. أما هؤلاء الأشخاص اليوم...

تعنين رجال الدين الثوريين؟

صحيح! يقولون إنهم لا يحبون هذه الصورة. لكن تذكّروا رجاءً ما فعلوه حين استولوا على الحكم: اغتصبوا فتيات عذارى بسبب معارضتهنّ لهم ثم أعدموهنّ حرصاً على عدم دخولهنّ إلى الجنة!

الثورة

بدأت الثورة بعد أشهر قليلة على افتتاح المتحف. ألم تكن رد فعل أيضاً ضد الانقسام العميق في المجتمع واللامساواة في توزيع الثروات وأسلوب حياة النخب الحاكمة؟

لم أسمع يوماً أي انتقاد بشأن المتحف. سُرّ الجميع به في الماضي مثلما يُسَرّون به اليوم. إنه إرث ثقافي قيّم ولا أعرف إذا كانت قيمته الراهنة تفوق القيمة التي حملها عند نشوئه.

كيف لم تلاحظوا التيارات الاجتماعية الضمنية الخطيرة التي أطاحت بكم في نهاية المطاف؟

لم نتعامل مع الوضع كما يجب وإلا لما وقعت تلك الحوادث. كان أعداؤنا منظّمين جداً على عكسنا. تدرّب عدد كبير منهم داخل معسكرات في فلسطين وكوبا وأماكن أخرى.

كان الشاه يملك واحداً من أكبر وأفضل الجيوش المسلّحة في المنطقة.

وقف الشيوعيون من الاتحاد السوفياتي والصين واليساريون ضدنا وتحالفوا مع الخميني. اعتبره زوجي تحالفاً مشيناً بين {الأحمر} و{الأسود}، حيث يمثّل الفريق الأحمر الشيوعيين ويرمز الفريق الأسود إلى المتديّنين المتزمتين. ربما لم نعرف ما كان يحصل في المساجد واستخففنا بما كان يفعله هؤلاء الأشخاص. لم نصدّق أن الشاه، بعد كل ما فعله للبلد، سيُستَبدل به شخص كالخميني. ساعدتهم أيضاً الحملات الدعائية التي أطلقتها الولايات المتحدة وأوروبا ضد إيران، إذ كانت خطابات الخميني تُبَثّ على قناة "بي بي سي” قبل وصول أشرطة التسجيل إلى إيران.

كَرِه كثيرون الشاه لكنك كسبتِ، أنتِ الإمبراطورة، حب عدد كبير من الناس. عرض عليك أحد آيات الله البارزين العودة بكل أمان إلى إيران إذا قتلتِ زوجك أولاً.

لا أعتبر هؤلاء الأشخاص إيرانيين، فهم قتلوا عدداً كبيراً من الناس.

انتهاكات

قبل الثورة، استعمل جهاز الاستخبارات المعروف بسمعته السيئة، {سافاك}، أساليب تعذيب منهجية ضد المعارضة لإسكات أعضائها أو إجبارهم على التكلم. استعملوا الصعقات الكهربائية والحروق واقتلاع الأظفار والأسنان والاغتصاب.

انتشرت أكاذيب كثيرة وقصص مبالغ فيها. ظهر يساريون دعموا الثورة في البداية في وسائل الإعلام الإيرانية ليقولوا علناً إنهم كانوا ينشرون تلك الأكاذيب. يمكنكم أن تراجعوا النتائج التي توصّل إليها الدكتور عماد الدين باغي الذي درس سابقاً في الحوزة العلمية وكلّفته الجمهورية الإسلامية بتحديد هوية الضحايا في عهد بهلوي. فوجئ باغي حين اكتشف أنه يستطيع التأكيد على هوية 3200 قتيل فقط بدل 100 ألف.

لم تحصل يوماً أية دراسة معترف بها دولياً عن عدد المعتقلين السياسيين وجرائم القتل. لكن حتى لو كان العدد أقل بكثير، حصلت انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان. لماذا لم تتدخلي؟

لم أكن أستطيع فعل شيء.

كنتِ الإمبراطورة. أنتِ والشاه كان بإمكانكما القيام بكل ما تريدانه.

لا، لم يكن الوضع بهذه البساطة. كانت القرارات تتأثر أيضاً بالحكومة القائمة وبأشخاص نافذين آخرين.

هل كان اللجوء إلى أساليب التعذيب والقتل ضرورياً؟

لا. إذا كانت تلك الادعاءات صحيحة، أتأسف على حصولها. أتمنى لو لم يقوموا بذلك. مرّت 38 سنة وتكررت خلالها تلك القصص السلبية والمبالغ فيها. أتمنى أن تكتبوا عما يحصل اليوم في الجمهورية الإسلامية.

هل كنت تعرفين بممارسات التعذيب؟

سمعتُ عنها لكني لم أكن متأكدة من صحة تلك المعلومات. أنتم تقارنون بلدنا بالديمقراطيات الغربية، لكننا لم نستطع إنشاء نظام ديمقراطي بين ليلة وضحاها. يحتاج الناس إلى الوقت كي يتعلّموا ويصبحوا ملتزمين سياسياً. شاركتُ في نشاطات كثيرة لدفع البلد إلى التقدّم، فساعدتُ مستشفيات الجذام والمتأخرين عقلياً والمكفوفين والصمّ. أنتجنا الأفلام ونشرنا الكتب وفتحنا مكتبات للأولاد في المناطق كافة كي يتعلّم الناس القراءة. كذلك جلبنا الكتب إلى معظم القرى البعيدة بسيارات الجيب أو على الحمير. يجب أن تحكموا على مختلف الأطراف بموضوعية وتقيّموا الإيجابيات والسلبيات كافة. وعلى مر حياة زوجي، أظن أن الإيجابيات تفوق السلبيات.

هل كان يجب أن يكون زوجك أكثر صرامة في قمع الانتفاضة؟

يتساءل كثيرون عما منع الشاه من اتخاذ خطوات أقوى في البداية مثل قتل الناس بكل بساطة أو رمي عدد إضافي منهم في السجن. لكن كان زوجي يقول: {لا أريد أن أقيم عرشي على دم شعبي}. في الوقت نفسه دعم العالم الغربي الانتفاضة.

الهرب من إيران

بعد هربك من إيران، لم يقبل أي بلد استقبالك مع عائلتك. كيف يمكن أن يعيش الشخص هذا النوع من الانهيار السريع؟

ساعدتني الرياضة كثيراً. أجبرتُ نفسي على لعب كرة المضرب. دعمَنا بعض الأشخاص لكن لم يكن عددهم كبيراً. كنت أعرف من كان زوجي ومن أكون أنا. أردتُ أن أشجّع زوجي وأولادي وأحافظ أيضاً على احترامي لنفسي، وكنت أعرف أن معاناتي ستُسعِد عدوّي.

هل أصابك الاكتئاب؟

نعم. قصدتُ طبيباً نفسياً وأخذتُ الأدوية فترة ثم أوقفتُها لأنها زادت وضعي سوءاً. اليوم أقول لنفسي: صمدتُ طوال هذه الفترة ومرّت 38 سنة. إذا متُّ يوماً، لا مشكلة! ماذا في ذلك؟

لكن لم تصمد ابنتك ليلى، بل انتحرت مع أحد أبنائك.

سيبقى هذا الجرح في قلبي إلى الأبد. كانا ذكيَّين ويبذلان قصارى جهدهما لمعالجة مشاكلهما. كان الناس يصرخون في الشوارع {ليسقط الشاه} ويطلقون شعارات أخرى مماثلة، وكنا نتنقّل من مكان إلى آخر. كانا في سن صغيرة حين سمعا ذلك الكلام السلبي كله على التلفزيون وفي الصحف. الله أعلم! أفكر دوماً بما كان يمكنني فعله. لكن لا نفع من ذلك. لم يعودا موجودَين.

ماذا يحمل المستقبل لإيران؟

أحاول أن أحافظ على تفاؤلي دوماً. على مرّ تاريخنا الطويل، تعرّضت إيران للغزو من بلدان أخرى كثيرة، ومع ذلك صمدت الهوية الإيرانية. الشعب هناك شجاع جداً، لا سيما المرأة وهي أكثر شجاعة من الرجل.