عنوان الديوان «دروب» عن أي دروب تبحث؟ دروب الحياة أو ما بعد الحياة؟

في الحياة، ثمة دروب كثيرة نحن محكومون بالسير فيها، بعضها نختاره بأنفسنا، وبعضها الآخر كتب علينا اجتيازه، فنحن كسيزيف مكتوب علينا أن نمضي في دفع الصخرة إلى أعلى الجبل حتى نبلغ القمة أو نهلك دونها، وقد عبّرت عن هذا المعنى، ذات قصيدة لي، بالقول: «نادراً أختار دربي/ غالباً يختارني الدرب الطويل/ قدري العودة للبحر/ ومجراي وصول».

Ad

وفي المبدأ، نحن لا نبحث عن الدروب، سواء أكانت في الحياة أو ما بعدها، بل نبحث عن الحقيقة في نهاية الدرب، وعن المعنى في آخره. مع العلم أن أجزاء منها قد نقع عليها خلال المسير، وليس في نهايته، لكن الوصول إلى الحقيقة دونه مكابدات، ومقامات، وأحوال، ومعاناة، وتضحيات. وقد نصل وقد لا نصل. وأحياناً يشغلنا الدرب عن الوصول، فنصرف النظر عنه، وقد عبّرت عن هذا المعنى في قصيدة لي بعنوان «فتنة الدرب»، حين قلت: «فتنة الدرب سبتني/ لم يعد يشغلني همّ الوصول». وبالعودة إلى العنوان، فالدروب هي القصائد، وكل قصيدة هي درب، يقصر أو يطول، نقبض، في نهايته أو خلاله، على المعنى الجميل، أي على جزء يسير من الحقيقة الشعرية.

تتناول في الديوان بعضاً من ملامح حياتك على شكل مشهدية متكاملة العناصر، فهل اختيارك هذه الملامح بهدف التأمل فيها أو تسجيلها بشكل مذكرات؟

القصيدة ليست حيّزاً مناسباً لتسجيل المذكّرات، فلهذا حيّزُ آخر بطبيعة الحال، ومع ذلك، قد تشتمل على ذكريات معينة تتسلّل إليها وتدخل في نسيجها العام. أمّا اشتمال القصيدة على ملامح من حياة الشاعر، وخيوط من تجربته، فهذا أمر طبيعي، يدخل في صلب العملية الشعرية، فنحن نكتب أنفسنا، بشكل أو بآخر، ونقول تجربتنا، بطريقة أو بأخرى، وإذا ما عرفنا كيف نفعل ذلك، وامتلكنا العدة المناسبة للفعل، لا بد من أن نصل إلى الإبداع، لأنه لا نفس كالأخرى، ولا تجربة كالأخرى. ولست أذكر من قال ذات يوم إننا أُعطينا أنفسنا لنتأمّلها، ولعل ما يميّز الشاعر عن الآخرين أنه يحوّل هذا التأمل إلى شعر، وهذا ما حاولت أن أفعله في «دروب»، وفي مجموعاتي الشعرية الأخرى.

مكنونات وبيئة

يزخر الديوان بمكنونات روحية وفكرية تغوص في الموروثات فإلي أي مدى يؤدي العقل دوراً فيها والعاطفة أيضاً؟

القصيدة ليست تركيباً كيماويّاً كي نحدّد بدقة المواد التي تتألف منها، والمقادير التي استُخدمت بها تلك المواد. ومع ذلك، ثمة مجموعة من العناصر توجد فيها بمقدار أو بآخر، من بينها: العقل، العاطفة، الخيال، الانفعال، الإحساس، الشعور، الصورة، المعنى...، والشاعر الشاعر هو من يتقن استخدام هذه المكوّنات بمقادير مناسبة، بما لا يفسد «الطبخة الشعرية».

بالنسبة إلي، العقل موجود من خلال بعض المعاني والأفكار، لا سيما في قصيدة «حجر» التي تدعو إلى التضامن الإنساني والأخوّة البشرية، لكنني أحاذر استخدام العقل بجرعة زائدة، الأمر الذي يطيح بالشعر، والعاطفة موجودة إلى حد ما، لكن الطابع التأملي والأسئلة الوجودية التي تطرحها المجموعة لا تفسح مجالاً كبيراً للعاطفة التي توجد عادةً، في قصائد الغزل والرثاء وبعض الأغراض الأخرى.

الشاعر ابن بيئته، فإلى أي مدى تحضر بيئتك الثقافية والدينية في شعرك؟

بيئة الشاعر، على أنواعها، جزء من شخصيته ونسيجه الداخلي، ولا بدّ لها من أن تنعكس في شعره. وهذا ينطبق علي، فبيئتي الثقافية حاضرة بقوة في شعري، سواء من حيث الأسئلة الوجودية التي أطرحها ممّا يتعلّق بالحياة والموت والوجود والشرط الإنساني، وهي موضوعات مطروحة في هذه البيئة، أو من خلال تسلّل بعض المعتقدات معدّلةً إلى نصي الشعري، على أن تحديد مدى حضور هذه البيئة مسألة تعود الى الدارسين والنقاد. وهو ما قام به أخيراً عدد من الأصدقاء أذكر منهم: الدكتور ميشال كعدي، الدكتور قصي الحسن، الشاعر عمر شبلي، والكاتب شفيق يحيى.

تنوّعت محطاتك الحياتية بين الوظيفة والكتابة والخدمة الاجتماعية، فهل أغنت تجاربك فيها نتاجك الأدبي؟

التجارب التي نعيشها، سواء في الوظيفة أو الشأن العام أو النشاط الثقافي، لا بد من أن تؤثّر في حياتنا، بشكل أو بآخر، فالانسان هو حصيلة تجاربه، بمعنى من المعاني. ومن الطبيعي أن تنعكس هذه التجارب في أدبه وشعره، لكن لا يحدث ذلك بطريقة فوتوغرافية، خصوصاً في الشعر. أمّا المدى الذي بلغته هذه التجارب في نتاجي الأدبي فهذه مسألة تحققها الدراسة والدرس النقدي، كما أشرت سابقاً.

محاولة شعرية

في ديوانك «دروب» شذرات صوفية. فهل تحاول الانعتاق فيها من القيود المادية والتحليق في رحاب السمو إلى الأعلى؟

أي محاولة شعرية جدية تنطوي على محاولة انعتاق من المادي، وعلى رغبة في التحليق، بغض النظر عن المدى الذي تنجح فيه المحاولة وتتحقق الرغبة. ونحن حين نكتب الشعر ننطلق من واقع معين، مادي أو غير مادي، لكننا نحاول السمو عن هذا الواقع وتجاوزه إلى ما فوقه أو وراءه. فكيف إذا اشتمل النص الشعري على شذرات وإشارات صوفية؟ هنا تصبح المحاولة مضاعفة تتناول الشكل والمضمون، باعتبار أن الصوفية هي نوع من أنواع تجاوز الواقع وتخطيه إلى ما يسمو عليه، سواء أكان هذا السامي فوقه أو وراءه. وأنا أحاول ذلك بالتأكيد، خصوصاً حين يحاصرنا الواقع بوقائعه المادية الثقيلة، عندها لا يبقى لي سوى القصيدة جناحاً، وأزعم، بعيداً من ادعاء التواضع، أنني تعلّمت التحليق جيّداً، وارتياد الفضاءات العلى.

هل يمكن القول إن الديوان هو خلاصة تجاربك في رحاب الفكر ورحاب الحياة؟

لا أستطيع القول إن الديوان هو خلاصة تجاربي في الفكر والحياة. ومع ذلك، هو يشتمل على شيء من هذه الخلاصة. من جهة ثانية، هذه الخلاصة هي قيد التشكّل الدائم ما دام الواحد منا على قيد الحياة والتفكير والكتابة.

تتنوع كتاباتك بين الدراسة الأدبية والنقد الروائي والشعر، هل تتكامل هذه الأنواع الأدبية في ما بينها أم ثمة استقلالية، بمعنى أن قلمك في الدراسة يختلف عن قلمك في الشعر؟

في الواقع لا يوجد تكامل بين هذه الأنواع الأدبية وإن كانت جميعها تتحدّر من الحقل المعرفي العام ذاته، الأدب. فالدراسة الأدبية تقتضي لغة موضوعية، تستند الى مهارات الفهم، والتفسير، والتأويل، والتفكيك، والتركيب، والتحليل، والاستنتاج، والمقارنة، الى ما هنالك من العمليات العقلية المختلفة. والنقد الروائي يقتضي المستوى اللغوي نفسه مستنداً إلى ثقافة نقدية وعين ثاقبة ومنهج نقدي. أمّا الشعر فيحتاج إلى لغة ورؤية مختلفتين، ومهارات فوق عقلية... ومع هذا، لا نستطيع التحرر من حضور الشاعر في بعض تفاصيل الدراسة والنقد، ولا من حضور الناقد في الشعر. المهم ألا يتخطى الحضور قدراً مقبولا وألاّ يتحوّل إلى حضور سلبي يضرّ أكثر ممّا ينفع.

«القناديل والريح» و«قفص الحرية»، مؤلفان يندرجان ضمن الأدب الريفي، فأي ريف تعكس، وهل ما زال ثمة ريف في الألفية الثالثة؟

أنا ابن قرية لبنانية جميلة، ولدت ونشأت فيها، وتشكّلت بصورها ومشاهدها، وتشبّعت بعاداتها وتقاليدها، وعشت حكاياتها، وتفاعلت مع أهلها. وفي مرحلة لاحقة من العمر، اكتشفت حجم التحوّلات الكبيرة التي طرأت عليها، على مستوى المكان والناس والعادات والتقاليد، بفعل مرور الزمن، ودخول وسائل الإعلام إلى كل بيت، والزحف المديني بما هو قيم مختلفة، فخشيت على «حضارة القرية من الزوال»، على حد تعبير أنيس فريحة، وكتبت كتابيّ اللذين أشرت إليهما انطلاقاً من تجربة معيشة، ما جعلهما يحظيان بأصداء إيجابية واسعة، حتى أن نصف نصوص كتابي الأول «القناديل والريح» دخل في مناهج التعليم، في القطاعين العام والخاص، وهذا مدعاة سرور لي. أمّا عن وجود ريف في الألفية الثالثة، فأنا أعتقد أنه ما زال موجوداً، إلى حدٍّ ما، على مستوى الحضور المادي. أمّا على مستوى الحضور المعنوي فأعتقد أنه زال، أو هو في طريق الزوال، على أحسن تقدير.

مقومات ونقد

يعتبر سلمان زين الدين أن «مقوّمات الأدب الريفي لا تختلف، في المبدأ، عن مقومات الأدب المديني، إذا صح التعبير، سوى في الموضوع، فالأدب الريفي هو الذي يتخذ من الريف موضوعاً له، ويرصد التحوّلات التي تطرأ في الريف، على مختلف المستويات. أمّا على مستوى اللغة فقد يحضر الريف من خلال تراكيب ومفردات معيّنة لا نجدها في الآداب الأخرى».

رداً على سؤال حول أبرز مقومات النقد الروائي يوضح: «انطلاقاً من تجربتي في هذا الحقل، أستطيع القول إن الموضوعية، والمنهجية، وحسن التأويل، وتفكيك عناصر الرواية، وربطها بالواقع، واستخلاص الرسالة الروائية، هي بعض مقوّمات النقد الروائي، وهي تختلف عن مقومات الناقد الروائي وتتقاطع معها في آن. المهم أن يكون ثمة تجرّد في النقد، وأن نفصل بين الخاص والعام، وألاّ نهمّش الأسماء المغمورة، ونقع، في المقابل، تحت سطوة الأسماء الكبيرة، أو نسقط في فخ الانبهار بها».