لقد عاد الرئيس ترامب ليصف الإعلاميين بأنهم "غير نزيهين" مرة أخرى، خلال المؤتمر الصحافي العاصف، الذي عقده الأسبوع الماضي، والذي شهد أدلة ناصعة جديدة على العداء المستحكم بين هذا القائد من جانب، ومعظم وسائل الإعلام الجماهيرية الأميركية من جانب آخر.

لا يبدو أن الصدع الكبير في العلاقة بين ترامب وأنصاره ومساعديه من جهة ومعظم الكيان الإعلامي الأميركي من جهة أخرى في طريقه إلى الالتئام، بل يبدو أنه ينحو إلى الاتساع يوماً بعد يوم.

Ad

من يتابع تعليقات ترامب على أداء المؤسسات الإعلامية الرئيسة، وأوصافه التي يطلقها على الإعلاميين، يعرف أن ما يجمع الجانبين سوء تفاهم مقيم وعداء منهجي، ومن جانبها، فإن تلك الوسائل باتت تشن حرباً منسقة بوتيرة متصاعدة على الرجل، بشكل ابتعدت فيه عن القواعد المهنية، وباتت أقرب إلى عمل الأذرع الدعائية.

يقودنا هذا إلى حالة عداء مستحكم بين القائد ووسائل الإعلام الرئيسة في مجتمعه، وهي حالة يتشارك الجانبان قدراً من المسؤولية عنها، ولكنها لا يمكن أن تقع في حال كان الحكم منفتحاً ورشيداً. قبل أسبوعين، أصدر الرئيس ترامب بياناً رأى فيه أن "الصحافيين هم بين الأشخاص الأقل نزاهة في العالم"، قبل أن يصرح كبير مستشاريه للشؤون الاستراتيجية "ستيفن بانون" بأن "وسائل الإعلام الأميركية يجب أن تشعر بالحرج والإهانة، وأن تبقي فمها مغلقاً، وتستمع فقط في الوقت الحالي".

يذكرني هذا الهجوم بهجوم مماثل شنته جماعة "الإخوان" ضد الإعلام المصري حين وصلت إلى السلطة في 2012- 2013، حتى إن مرشد الجماعة وصف الإعلاميين آنذاك بأنهم "سحرة فرعون".

في تلك السنة كانت الجماعة تسيطر على المجلسين النيابيين والرئاسة، لكن المجال الإعلامي كان معادياً لها بامتياز، وظلت الممارسات الإعلامية تستهدفها، استناداً إلى ممارساتها السلطوية وتصرفاتها المتضاربة، حتى إنها سجلت الهاجس الأهم لها والعدو الأكثر تأثيراً ونكاية.

لا أجد فارقاً كبيراً بين ما قاله ترامب ومستشاروه وبين آراء مرشد "الإخوان" وتابعيه، حين حاولوا أن يصفوا المجال الإعلامي في مصر والولايات المتحدة.

سيمكنني أن أتفهم أن معظم المجال الإعلامي المصري كان معادياً لتنظيم "الإخوان" على مدى عقود، كما أعرف أن معظم وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة عارضت ترامب وأثرت سلباً في حظوظه، عبر ممارسات منحازة ضده، دون أن نغفل أن الكثيرين بيننا يعتقدون أن ترامب و"الإخوان" يمثلان أسوأ ما يمكن أن تنتجه السياسة وتفرزه الصناديق.

يقودنا هذا إلى سوء الفهم الكبير الذي يقع بين بعض القادة والجماعات السياسية من جانب والصحافة والإعلام من جانب آخر؛ وهو سوء فهم يمكن أن نجد تبريراً له.

يقول "هتلر" في كتابه "كفاحي": "إن دور حاجز النار الذي تنفذه المدفعية، ستقوم به في المستقبل الدعاية، التي ستعمل على التحطيم المعنوي للخصم قبل أن تبدأ الجيوش عملها". ونحن نعرف الآن الثمن الذي دفعته ألمانيا والعالم بسبب سياسات هذا الزعيم.

يسعى الكثير من السياسيين الذين يعتقدون بامتلاكهم "الحقيقة المطلقة" إلى تحويل وسائل الإعلام إلى "آلة دعائية"، تُلّمع صورتهم وتلطخ سمعة أعدائهم، فإن لم يتمكنوا من ذلك، فإنهم يشنون عليها الهجمات العنيفة، ويصفون الإعلام والعاملين فيه بأشنع الأوصاف. وبالطبع، فإن حرية الصحافة والإعلام تدفع أثماناً غالية لقاء تلك المحاولات، وهي أثمان تدفعها أيضاً الأوطان، لأن حرية الإعلام ليست منحة أو ميزة للإعلاميين ولكنها "مصلحة عامة"، وهي أيضاً أحد المؤشرات الرئيسة التي تُصنف على أساسها المجتمعات لجهة الديمقراطية والتقدم أو الدكتاتورية والتخلف. يعتقد باحثون كبار بأن وسائل الإعلام الجماهيرية تؤدي أدواراً سلبية حيال الديمقراطية والنقاش العام، من بين هؤلاء يبرز الفيلسوف الألماني "هابرماس"، الذي يرى أن "الإعلام بات يقوم بدور صناعة الرأي العام عن طريق الاستمالة والتلاعب والسيطرة المفروضة عليه، بسبب هيمنة المال السياسي، والمصالح التجارية".

تتبنى "مدرسة فرانكفورت" الرأي نفسه، ويذهب المفكر الفرنسي "جان بودريار" إلى أبعد من ذلك؛ إذ يرى أن "وسائل الإعلام لا تعكس العالم أو تعرضه علينا، لكنها تعيد تعريف ماهيته بناء على رؤيتها". ينطلق بعض القادة المنغلقين من تلك التحليلات إلى ضرورة إخضاع المجال الإعلامي، أو تأمينه في الحد الأدنى، حتى لا يصبح مجالاً معادياً.

وعندما يشعر هؤلاء القادة بأن المجال الإعلامي يفرز ممارسات تعوق خططهم، فإنهم يتحولون إلى شيطنته واستهدافه.

لا تختلف تلك السياسات عن القادة النازيين والفاشيين والأكثر استبداداً، والذين يحولون وسائل الإعلام إلى آلات إيقاع لعزف "نوتات" التأييد لهم.

ثمة مقاربات أخرى تعارض هذه التوجهات، وترى أن الإعلام يؤدي دوراً مهماً في إحاطة الجمهور بالتطورات الحيوية، كما يوفر ساحات للنقاش العام؛ إذ يعتقد المفكر "جون تومسون" أن "الإعلام يقوم بتوسيع دائرة القضايا العامة وإثرائها، وينمي المهارات والمعارف".

والشاهد أن الإعلام "نظام تابع" لا "نظام رئيس"، ولأنه "نظام تابع" فإنه يعكس صوراً يريدها من يقف وراءه، ويقدم أفكاراً تخدم مصالح مالكيه، ورؤى القائمين عليه.

والحل، ليس في قمع الإعلام ولا معاداته وتحقير العاملين به، ولكن عبر توفير التعددية والتنوع اللازمين، لكي يعبر أصحاب المصالح عن أنفسهم بشكل عادل عبر المجال الإعلامي، الذي يجب أيضاً أن يخضع لتنظيم، وأن يلتزم ممارسوه بمعايير مهنية شفافة ورشيدة.

ستبقى تلك الأزمة، طالما كانت وسائل الإعلام لا تنفذ أوامر السياسيين الشموليين حرفياً، ولا تطبل وتزمر لهم، أما القادة النبهاء، فسيسعون إلى تنظيم رشيد، ومجال إعلامي منفتح ومتعدد وخاضع للتقييم، بحيث تبقى المصالح متوازنة، والحقائق معلنة، والجمهور في النور.

سيجد أنصار ترامب له أعذاراً حين يهاجم وسائل الإعلام بضراوة، خصوصاً عندما تقوم تلك الوسائل باستهدافه منهجياً واصطياد الأخطاء له.

لكن النقاد الموضوعيين سيخبرونه بأنه يقدم لتلك الوسائل خدمات كبيرة، لأنه لا يتوقف عن ارتكاب الأخطاء، ولا يواجه تجاوزات الإعلام بلغة مسؤولة، ولا يطور منابر أكثر مهنية للتعبير عن مواقفه.

* كاتب مصري