الإبداع الأدبي صناعة مجتمعية ومجهود بشري فردي، ولا تستطيع المؤسسات، بما فيها الثقافية، أن يكون أحد مخرجاتها شاعرا أو روائيا كما تخرج لنا مهندسا أو كيميائيا أو جراحا. ونجاح كاتب ما وانتشاره ليس مرهونا بعلاقته بالمؤسسة، حتى وإن استغل الكاتب هذه العلاقة، والتي ستنتهي بمجرد خروجه من المؤسسة، إنما مرهون بأصالة إبداعه، ونضج تجربته الإبداعية. ولقد حاولت المؤسسات الثقافية في الوطن العربي، سواء كانت حكومية أو شبه حكومية، احتواء المبدع العربي، مستغلة وضعه المعيشي، وهي على ثقة بأنه لن يستقل ماديا ليعيش من ريع كتبه. وفي حال فشلها في ذلك تحاول تحييد المبدع المخالف وإخراجه من قطيع المثقفين المنتمين لها، ليبدو شخصية معادية للمؤسسة، ومن ثم معادية للوطن. وكما نحن بحاجة لكاتب مستقل، فنحن بحاجة لمؤسسة مستقلة.

في فترة الثمانينيات من القرن الماضي كان من الصعب على أي تجمع ثقافي غير حكومي أن يستمر أو يعيش إلا في حدود أحلام القائمين عليه، فالمؤسسة الرسمية ترى في نفسها الجهة الوحيدة المسؤولة عن الحركة الثقافية، وأي مؤسسة أخرى تعتبر جمعية نفع عام تستقبل إعانتها المادية من الحكومة، ويخضع تقريرها المالي لمحاسب حكومي. ساعد على ذلك انقطاع العلاقة بين المبدع والمتلقي وضعف معدلات القراءة الإبداعية، مقارنة بنشاط الشعر الشعبي والكتاب الديني.

Ad

الوضع اليوم ليس كما كان عليه قبل ثلاثة عقود. صحيح أن سلطة المؤسسة لم تتغير كثيرا ومازالت تهيمن على الكاتب والكتاب بشكل أو بآخر، لكن مساحة الحرية أصبحت أكثر اتساعا، ومستوى المعرفة والقراءة ارتفع أضعاف وأضعاف ما كان عليه. الكتاب اليوم يلقى اهتماما من المجتمع، ولا يهتم الكاتب كثيرا برأي المؤسسة فيما ينشر ولا ينتظر موافقتها عليه.

الأمر الذي يثير البهجة هو الدور الذي يلعبه القارئ. القارئ الذي يعتبره النقاد واهب شهادة الميلاد للنص الأدبي لم يعد قارئا متلقيا ومنزويا في مكان بعيد، وأصبح دوره مكملا ومهما في العملية الإبداعية. شكّل القارئ مؤسسته الخاصة، لمناقشة الكتاب ولقاء الكاتب وتبادل الآراء حول عمل ما. وانتشرت هذه التجمعات القرائية، وتنوعت، لتتحول إلى عمل ثقافي كامل، كما فعلت مجموعة "حروف" في الكويت.

تعرفت إلى المجموعة في معرض الكتاب الفائت بالكويت في لقاء ضمنا والمترجم الرائع أ. صالح علماني. محرك هذه المجموعة وقلبها هما رزان المرشد وعزيز العوضي، ويعملان بجدية حقيقية نحو نشاط ثقافي لا تحكمه بروتوكولات المؤسسة الحكومية، ولا يشعر فيه الضيف بأنه رهين فكر وقناعات هذه المؤسسة أو تلك. تستضيف "حروف" حاليا المفكر العربي علي حرب، وتعدنا بتقديم الكثير للعمل الثقافي العربي في الكويت. نحن نعرف قدرة الشباب على تحمُّل أعباء هذه الملتقيات، وحاجتهم لدعم المؤسسة، وخصوصا الدعم المادي، ونعرف موقف المؤسسة الحكومية حين تقدم الدعم وإخضاع البرامج لسياستها.

والحل الوحيد أمام هذه المنتديات، هو رعاية مؤسسات أهلية وأفراد يؤمنون بالعمل الثقافي، للتخلص من أعباء المؤسسة، ولعدم إحراجها أيضا إذا تفهمنا موقفها. ويمكن أن يتم ذلك مقابل إطلاق اسم راعي النشاط في الإعلانات المصاحبة للنشاط.

العمل الثقافي في الغرب يعتمد هذه الصيغ، ولا علاقة للمؤسسة الحكومية بنشاط هذه الأندية المدرجة غالبا ضمن ما يعرف بـ NPO أو المؤسسات غير الربحية، وجميع إيراداتها من التبرعات.