هل تخدم أفلام ومسلسلات "الفتوحات الإسلامية" والحروب التاريخية عقل المسلم المعاصر؟ وهل تجعله مثلاً أنضج فهماً لتطور التاريخ الإنساني، وأكثر إدراكاً لأوضاع العالم السياسية، وأشد إيماناً بالتعددية الثقافية وبالتسامح مع الثقافات والحضارات التي أدت هذه المنطقة دوراً بارزا في تطورها من آلاف السنين؟ أم أن تمجيد هذه الحروب، بهذا الإطار الدرامي المثير، يقدم في الواقع، خدمة دعائية لتيار التشدد، وربما حتى التنظيمات الإرهابية وفكرها التوسعي الداعي إلى استخدام العنف قبل غيره وأكثر من غيره في التعامل مع العالم الخارجي و"الدول الكبرى"؟

هل من الحكمة في شيء أن يؤمن الشباب بأن العنف والحروب أفضل سبل "التفاهم"، وأنجع وسائل التعامل، وأن العالم "لا يفهم ولا يحترم" إلا لغة القوة والسيف والدم، أم أن في تاريخنا وثقافتنا الكثير مما يخدم أهدافنا وإعلامنا، ويبني لنا مع الآخرين جسور التفاهم؟

Ad

تتدخل أحياناً بعض الظروف السياسية في تشجيع عرض هذه المسلسلات، ومنها مثلا مسلسل "قيامة أرطغرل" عن بدايات الدولة العثمانية وحياة وفتوحات "أرطغرل" والد مؤسس الدولة عثمان الأول، وهي الدولة التي يعشق الإسلاميون فتوحاتها البيزنطية والأوروبية، و"إذلالها" للغرب، وما زالوا ينسبون تدهورها وسقوطها إلى مؤامرات الدول الأوروبية، رافضين الاقتناع بما حصل لهذه الدول بعد نشوة الفتوحات! وقد جاء في القبس 23/ 1/ 2017 أن هذا المسلسل "يعد الأكثر ضخامة في الإنتاج الذي تصدت له شبكة قنوات TRT التركية الحكومية، إذ تكلف كل حلقة منه مليونا و200 ألف ليرة، أي ما يوازي اليوم نحو 400 ألف دولار أميركي".

وأضاف التقرير أن الرئيس التركي "رجب طيب إردوغان"، يدعم شخصياً المسلسل، "لاعتقاده أنه يصحح صورة السلاطين العثمانيين الفاتحين لدول أوروبا التي شوهها، حسب رأيه، المسلسل التاريخي الشهير الواسع الشعبية حريم السلطان".

ومما يزيد من مخاطر "دراما الفتوحات" والشخصيات الإسلامية التاريخية، لدى المسلمين ولدى غيرهم، أنها تحجب كل السلبيات، وأنها في أحيان كثيرة عرض إعلامي شعبوي لما جرى في التاريخ مثل هذه الأعمال الرائعة التمثيل والتصوير والإخراج، تشبع بلا شك جوانب الإحباط، وتداوي مشاعر الاستياء من واقع العالمين العربي والإسلامي، وتخفف من معاناة عقد النقص، وقد تشفى الغليل!

كل ذلك بطريقة كاذبة وخادعة ومنحازة في أحيان كثيرة، لأنها تخاطب جمهوراً تركياً شديد الغضب على أوروبا ومواقف الغرب، وجماهير إسلامية مناهجها الدراسية وخطبها الدينية تزخر بالتعبئة السياسية والعسكرية ضد الدول نفسها.

خطورة مثل هذه المسلسلات والأفلام تزداد في العالم العربي والإسلامي، ومنها تركيا؛ لأن المناهج التربوية في مدارس هذه الدول الإسلامية وغيرها لا تفتح نوافذ لنقد الماضي وللحديث الموضوعي والبحث في حياة الزعماء والفاتحين والأبطال و"الشخصيات الفذة" و"العمالقة"، ولهذا فهي ثقافة تلد الطغاة جيلاً بعد جيل!

لا أحد يزعم أن كل ما فعله الغرب في دول الشرق كان سليماً وإنسانياً، ولكن من المشكوك فيه تماما أن نستفيد كثيراً من ثقافة تأجيج الكراهية وشهوة الانتقام، وأن يصبح التحريض ضد الغرب والمسيحية واليهودية وغيرها من أركان خطابنا الإعلامي حتى في فلسطين نفسها.

وكما قلنا مرارا فإن ما فعلته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في دول آسيوية غير إسلامية كان أدهى وأمر، كما في الصين واليابان وفيتنام والهند، ولكن هذه الدول سبقتنا بأميال ومسافات، بعد أن لملمت جراحها وتعلمت التركيز على الأولويات، ونبذت سياسة الانتقام، وتركت ما هو تاريخي للتاريخ، وهجرت ثقافة العداء والتشهير بالغرب، وبحثت عن الحلول لمشكلاتها في البحث العلمي والأفكار الحديثة والحرية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك.

وقد تزامن ظهور حتى "إسرائيل" مع استقلال "باكستان"، كما قلنا في مناسبة سابقة، وقفزت الأولى إلى الأمام بخطوات في ميادين الصناعة والزراعة والبحث العلمي واللحاق بدول الغرب بل تصدرتها، فيما لا تزال الثانية تتخبط في القرون الخوالي، وسط الصراعات السياسية وتردي الخدمات وتوالي الإرهاب.

لقد نجحت تركيا في تحقيق الكثير من التقدم خلال السنوات الأخيرة، وهناك مخاوف حقيقية من أن تتراجع تدريجيا لأسباب سياسية ولرغبة قيادتها كما يرى البعض، في استلهام الدولة العثمانية وماضيها الإمبراطوري والزعامة الإقليمية.

بذلت تركيا الكثير للخلاص تدريجيا من الفقر والتخلف، وقد كان ناتجها القومي GDP عام 1991 نحو 119 مليار دولار، أي نحو ألفي دولار للفرد، وعدد السكان آنذاك قرابة ستين مليون نسمة، وناتجها القومي اليوم 2017 نحو 1600 مليار بمعدل عشرين ألفا و400 دولار للفرد، رغم زيادة السكان إلى ثمانين مليون نسمة.

ولم تكن صادرات تركيا تزيد عام 1966 على 500 مليون دولار في حين هي اليوم 154 بليون دولار، ويزيد دخل تركيا من السياحة، وهو أكثر من 26 مليار دولار عن اليابان والهند والنمسا وماليزيا، التي تقل دخل كل منها في هذا المجال عن مستوى تركيا.

(انظر: The World Almanac ,2017. ص 843و 118)

إن تركيا اليوم جسر العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط نحو التقدم السياسي والاقتصادي والدولة الحديثة والديمقراطية والعلمانية والصناعة والاستثمار، وعليها ألا تضيع في دهاليز التاريخ!