هو أحد أهم معطيات الحضارة الأوروبية، كما وصفه المؤرخون:

لم يحب مدينة مثل فلورنسا - مسقط رأسه - كما لم يكره مدينة مثلما كره فلورنسا!

Ad

وشاعت عنه جملته الشهيرة "أنا فلورنسي مولداً، ولكن ليس خُلقاً"! وهي من الكلمات الأولى التي تصدرت كتابه "الكوميديا الإلهية".

فهو يحب فلورنسا ويعطيها مكانة متميزة في قلبه، ثم يلهبها بصوت النقد الغاضب فيما كتبه عنها... وعندما نقف أمام هذا التناقض نجده يقول:

- لست في حاجة إلى تبرير حبي لفلورنسا، منها خرجت إلى الدنيا، وفيها ملاعب صباي، وعاطفة شبابي الأولى، وذكريات طهارة نفسي.

أما سخطي عليها فيعرفه كل الناس، قضى علي أهل بلدي بالحرمان من تراب وطني، لأنني أردت أن يرفعوا أيديهم الخانقة عن عنقها الجميل... فانطلقت الصيحات تطالب بقطع رأسي!

ففررت من منفى إلى منفى، وكم عانيت من حياة التشرد والتيه والضياع عبر الأنهار والتلال، وسرت على قدمي، وكثيراً ما وجدت نفسي أسير مع السراق والأفاقين، وسرقت مراراً، وضُربت مراراً، وعملت في مهن عديدة، وكم نمت خالي البطن!

- مع أن دانتي كان باستطاعته أن يشتري رضا حاكم فلورنسا، مثلما فعل غيره من الثائرين التائبين في العودة إلى مدينته التي يحبها، ولكنه لم يفعل مبرراً ذلك بالقول:

- كان يمكن أن أفعل، خاصة أن صديقي ألبيرتو فيراري، الواسع النفوذ، زارني في مدينة رافينيا وقال لي:

- هذه الحياة لا تليق بك يا دانتي... كيف تحتمل هذه الغرفة الضيقة ولك في فلورنسا قصر كبير رائع؟!

- صادره الحاكم وهو يقيم فيه الآن!

- يمكنك أن تسترده.

- فيراري... أحسب أنك جئت بوحي من الحاكم، لتضع شروط عودتي، فما تلك الشروط؟

- هينة جداً، وقد قبل بها كل الذين نفوا مثلك وعادوا إلى مدينتهم فلورنسا.

- الشروط يا فيراري؟

- أن تعترف بأنك مخطئ في كل ما قلته عن فلورنسا، وأسلوب الحكم فيها، وتشيد بالحريات!

- هل أدون هذا في رسالة أم أقوله منحنياً أمام الحاكم؟

- إنه لا يطلب منك سوى الاعتراف بأنك مخطئ.

- أعطني مهلة للتفكير.

- وهل العمر يمهلك يا دانتي؟

- ليكن يا فيراري ما تريد، وسأكتب لك ما يريد الحاكم، وسأنتظر رسالة منك بالعفو عني!

***

• لكن الحاكم غيّر وعده حين علم بقبول دانتي للشروط، فأضاف إليها فوق الاعتراف دفع غرامة مالية كبيرة، وأن يكون طلب العفو في حفل رسمي، وليس هذا فحسب بل إن على دانتي أن يسير حافياً من رافانيا إلى فلورنسا، فإذا دخلها زحف راكعاً حتى كنيسة سان جوفاني!

• طبعاً رفض دانتي كل ذلك، فصدر الحكم الرسمي بإهدار دمه، فأخذ يفر من مكان إلى آخر، وفي هذه الأمكنة المتعددة في تشرده كتب تحفته الخالدة "الكوميديا الإلهية"!