تتردد في الأوساط الاقتصادية – السياسية فكرة تقول إن الحكومة البريطانية تقوم بمقامرة من شقين في الجوانب المتعلقة بالمال وخروج البلاد من الاتحاد الأوروبي أو ما يعرف بالبريكست، ويتمثل الشق الأول في اعتقاد الوزراء أن الشركات المالية في العاصمة البريطانية تمارس الخداع عندما تحذر من تبعات تكلفة محلية محتملة قد تنجم عن الخروج القاسي من الاتحاد الأوروبي، وفي الشق الثاني يبدو أن المسؤولين البريطانيين قد اقتنعوا بأن الاتحاد الأوروبي يعتمد على لندن بشدة بحيث أن التهديد بالانسحاب هو مجرد خدعة، وربما يفضي هذان الشقان الى نتائج عكسية بصورة سيئة.

وعلى أي حال، قال غافين فنش من "بلومبرغ نيوز" الأسبوع الماضي إن سيتي يو كي وهي مجموعة ضغط (لوبي) في القطاع المالي قد تخلت عن جهودها الرامية الى ضمان حصول الشركات التابعة لها على قدرة وصول سلس الى الاتحاد الأوروبي بمجرد دخول البريكست إلى حيز التنفيذ. ومن هذا المنطلق فإن المفترض أن سيتي يو كي لم تعد تعتقد أن حكومة المملكة المتحدة سوف تعمل على حماية النظام الذي يسمح للشركات الموجودة في دولة عضو في الاتحاد الأوروبي بالقيام بعمليات بيع خدمات مالية داخل ذلك الاتحاد.

Ad

ويتعين القول من قبيل الانصاف إن موقف الحكومة البريطانية كان مستقيماً وثابتاً على المبدأ بصورة مطلقة منذ أن أصبحت تيريزا ماي رئيسة للوزراء وبالتالي فإن البنوك لن تحصل على ما يمكن وصفه بمعاملة خاصة.

وتجدر الاشارة الى أن تيريزا ماي تميل الى اعتبار البنوك قريبة جداً من "النخبة" التي حشدت ناخبي الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن الخط المتشدد الذي تتبعه ادارتها يجازف بإلحاق الضرر بصناعة تسهم في حوالي 45 مليار جنيه استرليني ( 55 مليار دولار ) في الدخل القومي للمملكة المتحدة كما تقوم بتشغيل أكثر من 400000 موظف وعامل في أكثر من قطاع.

وجهة نظر الحكومة

ويبدو أن الحكومة البريطانية تعتمد وجهة النظر القائلة إن كل ما يلحق الضرر بالمملكة المتحدة يلحق الضرر بأوروبا أيضاً وبقدر أكبر، كما أن الأرقام التي نشرت في شهر سبتمبر الماضي من قبل السلطات المالية البريطانية قد أظهرت وجود حوالي 5500 شركة في المملكة المتحدة تستخدم تراخيص الاتحاد الأوروبي من أجل تقديم خدمات فيه ولكن أكثر من 8000 شركة تعمل بالاتجاه المعاكس وهي تتمركز في دول اخرى في الاتحاد، ولكنها تقوم بعمليات تجارية في المملكة المتحدة بموجب النظام الذي يسمح للشركات الموجودة في دولة عضو في الاتحاد الأوروبي بالقيام بتقديم خدمات مالية فيه.

ويبدو أن هذا التباين يعكس المواقف البريطانية ازاء كيفية تعامل الاتحاد الأوروبي مع الصناعة المالية بمجرد تطبيق مفاوضات الخروج من الاتحاد بصورة ملائمة، ولكن ذلك يشكل جزءاً فقط من القصة، وفي ما يلي ما قاله حاكم بنك مارك كارني انكلترا الى المشرعين في الأسبوع الماضي:

" يوجد في الوقت الراهن أسواق تحوط عميقة وعريضة وقد خرجت بشكل مبدئي من المملكة المتحدة، كما أن المؤسسات والشركات المالية تعول على الحضور المستمر لتلك الأسواق، واذا كنت تعتمد على رقعة معينة في ثلاثة أرباع أنشطتك في التحوط وثلاثة أرباع الصرف الأجنبي ونصف الاقراض فيتعين عليك التفكير بعناية تامة حول الانتقال من حيث أنت في الوقت الراهن والتوجه الى توازن جديد ".

الحقيقة

يوجد الكثير من الحقيقة في الكلمات التي صدرت عن مارك كارني، وحوالي 40 في المئة من الأصول المالية الأوروبية تدار من العاصمة البريطانية فيما 60 في المئة من أعمال أسواق رأس المال تعمل في الوسط المالي في لندن وتوفر البنوك التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها أكثر من 1.3 تريليون دولار من القروض الى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وعلى أي حال تجدر الاشارة الى أن مسودة تحليل كانت صدرت في الشهر الماضي قد اشتملت على ما يمكن أن تكون عليه أشكال القوانين المالية التي يحتمل أن يتم تطبيقها في الفترة التي تعقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وجدير بالذكر أن عدداً من المسؤولين في البرلمان الأوروبي قالوا إن الاستقلال في الجوانب المالية يشكل خطراً بالنسبة الى طرفي المفاوضات المحتملة في المستقبل. وأشارت مسودة التحليل المذكورة الى ان "الاتفاق النهائي الذي يتسم بسوء التصميم سوف يلحق الضرر بأوضاع المملكة المتحدة وبقية الدول الأعضاء الـ 27 في الاتحاد الأوروبي أيضاً".

ولكن على الرغم من ذلك فإن الجدال حول أهمية الوسط المالي في العاصمة البريطانية يبدو وكأنه في شكل دائري، ويرجع ذلك الى أن لندن تزود أوروبا بمعظم احتياجاتها من السيولة المالية، لأن التداولات التجارية وإدارة الأصول تتركز في عاصمة المملكة المتحدة، ولكن ليس هناك ما يشير الى أن العاصمة الفرنسية باريس لا تستطيع القيام بالدور نفسه الذي تلعبه لندن في حال قيام البنوك بنقل معظم أنشطتها الى فرنسا.

دور المصادفة

وما يستحق التحدث عنه في هذا الصدد هو أن سوق سندات أوروبا انطلق قبل أكثر من نصف قرن بطريق المصادف،ة وقد أسهم تغير في قوانين الضرائب في الولايات المتحدة في دفع الأموال أوفشور، وأفضى الى تشكيل تجمع للعملة الأميركية في القارة الأوروبية عن طريق السعي وراء موطن للتعاملات المالية. وكانت مجرد مصادفة أن القوانين في المملكة المتحدة خلال تلك الفترة، والتي يرجع تاريخها الى القرن التاسع عشر، كانت تنص على أن العمليات والصفقات المالية التي يعود مصدرها الى بريطانيا بين نظراء أجانب كانت معفاة من دفع الرسوم. وبحلول عام 1967 ارتفع رصيد ذلك السوق الى أكثر من خمسة مليارات دولار في السنة الماضية، كما تم بيع أربعة مليارات من السندات الدولية، أي أن الظروف لا أي شيء آخر قد خلقت لندن كمركز مالي وليس باريس أو لوكسمبوغ أو زيوريخ أو فرانكفورت.

وقد أبلغ المدير التنفيذي لمجموعة سوق التبادلات في لندن "بي ال في السياق،" زافير رولت لجنة الخزانة في الأسبوع الماضي أنه كما دفع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التجارة بعيداً عن العاصمة البريطانية فإن الانتقال غير المنتظم قد يكلف المملكة المتحدة 232000 وظيفة وربما يهدد أيضاً الوضع الأوسع في ذلك البلد، وهو في خضم محاولة تهدف الى اندماج شركته مع منافستها الألمانية بورصة دويتشه، كما أن الأسئلة حول مقر الشركة الجديدة قد تعطل ذلك الاتفاق.

تهديد أبعد من «البريكست»

والخطر الذي يهدد دور لندن كعاصمة مالية لا يقتصر على "البريكست" وذلك لأن الأموال تتدفق على الأماكن التي ترحب بها، كما أنها تظل حيث تحظى بمعاملة جيدة ومشجعة، وأي فكرة تتحدث عن أن الحكومة البريطانية قد أصبحت معادية للقطاع المالي سوف تلعب دوراً في القرارات المتعلقة بمواقع تعيين موظفين وتقدم مواردها الى الأمام.

وقد بدأ ذلك بالحدوث، ومن المتوقع أن تخسر العاصمة البريطانية سوقاً تصل قيمته الى 570 مليار دولار في تعاملات مشتقات اليورو، وربما تتوجه الأنظار الى باريس. وكانت يوروبلاس وهي مجموعة ضغط تعمل في العاصمة الفرنسية قالت في وقت سابق من هذا الشهر إنها تأمل في اجتذاب ما يصل الى20000 وظيفة في القطاع المالي بعيداً عن لندن وأن يحدث ذلك عما قريب. وقال أرنو دي بريسون، وهو المدير الاداري للمجموعة أن "المؤسسات تسرع في عملية التفكير المتعلقة بهذا الوضع".

كما قال جوني ميتشل إن العاصمة البريطانية ستشعر بمقولة "أنت لن تعرف ما حدث لك إلا بعد أن تكون قد فقدته". وكان الوسط المالي في لندن يعتبر فردوساً مالياً الى أن حدث انهيار الائتمان والأزمة الاقتصادية التي رافقته، وسوف يكون من المخجل إذا أقدمت الحكومة البريطانية في خطوة انتقامية تهدف الى معاقبة الممولين المسؤولين عن تلك الفوضى على خطوة من شأنها اضعاف الجهة التي تسهم في تحسين الاقتصاد.