المستقبل عالمٌ مجهول، لكن مما هو ظاهر في حاضرنا، من إنترنت وإلكترونيات ومكتشفات علمية ومستجدات طبية، أن المعاجم ستتضاعف بالحجم، واللغات ستموت، فالكلمات تُستهلك وتموت إذا هجرها أهلها لغيرها، واللغة التي لا تلد الجديد تنطوي وتنقرض، مثل اللاتينية والهيلوغريفية، ولكن العربية لغة يدين بها أكثر من مليار إنسان، والتركية لغة التجارة والصناعة في الشرق الأوسط منذ قديم الزمان، والسؤال الذي يعتري المتطلع هو: أيهما التي ستبقى؟ ولا يعني هذا التساؤل المقارنة بين الدين أو الدنيا، فاللغات لا تحيا إلا بالاستخدام كيفما كان.

سبق أن أتممت مقالة بعنوان "العربية آدم اللغات؟"، في 7-5-2016، حيث أكدت أن العربية هي الوحيدة التي تحوي جميع بذور اللغات العالمية، وهي ما نطق بها آدم "وعلّم آدمَ الأسماء كلها"، واستندت إلى آخر نتائج أبحاث جامعة هارفارد لعلم اللُغويات الكوني الذي أكد أن جذوع الجينات الوراثية كلها موجودة باللغة العربية، وللاستزادة المتوسعة في هذا الموضوع تكون أبحاث الدكتور سعيد الشربيني مصدرا أكثر تعمقا، فهو الذي صرح بأن العربية مثل آدم لا أب ولا أم لها، واعتمد الأخير على نتائج فحص العربية في جامعة هارفارد بآليةٍ يطول شرحها. ومما ولدته اللغة العربية بشكل المباشر الفينيقية والعبرية وبعض الشرقيات ذات الأصل العربي. ناهيك عن أن أكثر الأفعال اللاتينية والسنسكريتية أصلها عربي، كما أن الخطوط الفارسية والأوردية وبعض اللغات الإفريقية والكردية عربية، كما كانت الحال مع اللغة التركية (العثمانية)، فالعربية ليست فرعا من شجرة بل هي الشجرة بالتمام، ولكن المستقبل هو زمن الرقميات والسرعة الشرسة، فهل ستصمد العربية؟

Ad

ثمة الكثير من العوامل التي تؤكد صمودها، فهي لغةٌ صمدت آلاف السنين وبمئات الدول، والقرآن الكريم هو عَمَدها، ناهيك عن أنها لغة مرنة، تستطيع احتواء الجديد من المصطلحات الفنية الجديدة مع الحفاظ على عَراقتها، ولكن بالمقارنة تبقى التركية ذات ظروفها المميزة وروحها الشبابية التي تقفز للمستقبل رغم جميع التكاليف.

لم ولن تلتفت الألسن التركية للماضي، فالتركية تنسلخ من ماضيها سواء في رسمها أو ألفاظها مثل حرف القاف الذي هُجر ما عدا عند بعض القرويين، فاقت التركية بتجددها حتى الإنكليزية في خصوصية التحول، فالإنكليز يتشنجون لتاريخ لغتهم بمحافظتهم على ما يسمى بالحروف الصامتة غير الموجودة بالتركية، فهم يتعمدون كتابة الحروف الصامتة مثل الكاف من كلمة (Knight) التي تلفظ (نايت) بمعنى فارس، لأنه في الماضي الألماني لهذه اللغة كان مستخدمو هذه الكلمة يلفظونها (كنايت). بمعنى آخر أن أشهر لغة معروفة بالتمرد مثل الإنكليزية تحتوي على خط رجعة بخلاف التركية.

الشعوب عادة تتعصب للغتها لكن الأتراك لا يعتبرون اللغة سوى مركبة مؤقتة لعُبور الفكرة، فالتعبير عن المشاعر والأفكار باللغة التركية لا يرجى منه سوى تحقيق الهدف لا غير، وهذه من حيوية وعملية الشعب الذي يستوطن قارتين، ويتاجر مع العالم، فهو لا يريد غبار التاريخ، أو ثقل الماضي، يطمح للنجاح الحاضر فحسب.

العربية تتشابه مع التركية بالخفّة والمرونة، لذلك يبدو أن المستقبل سيستضيف العربية إلى أمد بعيد بخلاف التركية الحالية، ناهيك عن أن القرآن الكريم وصف حور العين بـ"عُرباً أترابا"، ووصف العُرب هو خلود الشبابية بخلاف التركية ذات الشبابية التي تموت لتحيا من جديد!