يستطيع المؤرخ أن يدلي برأيه الحكيم بعد الواقعة أما المحلل السياسي فعليه أن يطرح أفكاره الحكيمة قبلها، وقد أخفق المعلقون في التنبه للدلائل التي أشارت إلى انتصار ترامب الرئاسي رغم حكمتهم التقليدية وحساسيتهم الانتخابية، ونتيجة لذلك يحاول بعض المعلقين منذ الانتخابات استباق التطور الاستثنائي التالي بطرحهم رواية جديدة، ومفهوماً يكفي لتوضيح كل الظواهر غير المتوقعة، والبغيضة، والمحيرة، وبوليصة تأمين شاملة كفاية لتوقُّع أي طارئ على أرض الواقع: تأثير ترامب.

يشكّل تأثير ترامب نوعاً من علل النظام الديمقراطي، فقد أدى التفاخر وتنامي الميل إلى المخاطرة إلى ارتفاع الحرارة العرقية وخسارة الصداقات القديمة، ولم يتضح بعد ما إذا كان بالإمكان معالجة تأثير ترامب بالرسوم الجمركية، والإعانات، والدفاعات الحدودية، التي تشمل إقامة الخنادق المائية والاستعانة بالتماسيح، كما لو أننا نملك إشارات فعلية إلى بلوغ هذا التأثير مرحلته الأخيرة.

Ad

الأسوأ من ذلك أن تأثير ترامب يستطيع الانتقال كالفيروس من كيان دستوري إلى آخر، إذ تمكن تأثير ترامب الذي مُنح هذا الاسم لظهوره الأول في الولايات المتحدة في مطلع شهر نوفمبر عام 2016، من القضاء على ضحيته الأوروبية الأولى في غضون أسابيع قليلة، فقد أُطيح برئيس الوزراء الإيطالي في استفتاء بشأن الإصلاح الدستوري. كذلك ظهرت العوارض على 46% من النمساويين خلال انتخاباتهم الرئاسية، بعد أن صوّتوا لنوربرت هوفر وحزب الحرية المناهض للمهاجرين، ومن المتوقع أن نشهد وباء كاملاً عام 2017 مع تفشٍّ واسع للشعبوية في فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وهولندا، وبريطانيا، وهذه هي الحكمة التقليدية الجديدة عن تأثير ترامب، إلا أنه لا وجود لتأثيره. أصاب المحللون في تشخيص نقطة واحدة: عوارض مشكلات الولايات المتحدة المحلية والتأثيرات المحتملة لرئاسة ترامب في مكانة الولايات المتحدة الأميركية، لكن افتراضهم أن انتصار ترامب سيُحدث ثورات انتخابية في أوروبا مغلوط على الأرجح، فقد تنشأ الانتفاضات الأوروبية من أسباب مماثلة، حتى إنها قد تتخذ شكلاً مشابهاً، لكن المحللين يكرهون أن يقروا بأن الرابط ليس سببياً، وقد يواجه الأميركيون والأوروبيون التحديات ذاتها في الاقتصاد المعولم، إلا أنهم ورثة تاريخين مختلفين.

إذا أردنا أن نُطلق على هذه الحالة السياسية اسم شعبويٍّ يتعمد إثارة الجدل، ويمتاز بشعره الأشقر المنتفخ، ويعشق التصريحات المناهضة للهجرة، يُعتبر "تأثير وايلدرز" اسماً أكثر دقة، فقد ظهرت علاماته في هولاند قبل سنوات عدة من انهيار عام 2008، وما تلا ذلك من تدفق الدم إلى الأطراف الذي أدى إلى ولادة حركة "حفلة الشاي"، وحركة "احتلوا"، وترشح ترامب.

فبينما كان ترامب ينطلق عام 2004 في عالم التسلية والترفيه مع الموسم الأول من برنامج Apprentice، طُرد البرلماني الهولندي غيرت وايلدرز بشعره المنتفخ الأشقر من حزب الشعب للحرية والديمقراطية اليميني الوسطي، وبصفته المتحدث باسم الحزب أحرج وايلدرز زملاءه مرات عدة بتصريحاته العدائية عن الإسلام والهجرة، أما القشة الأخيرة فكانت رفضه الموافقة على ضرورة أن يبدأ الاتحاد الأوروبي التفاوض بشأن انضمام تركيا المنتَظر منذ زمن إلى هذا الاتحاد.

وعقب طرد وايلدرز أسس حزب الحرية، وجمع بين أجندة اقتصادية ثاتشرية ومواقف وطنية متطرفة بشأن الإسلام، والهجرة والهوية، وكذلك طالب في الحال بحماية الشرطة بسبب التهديدات بالقتل التي يتلقاها باستمرار من إسلاميين، وكما فعل ترامب بعد عقد من الزمن عزز وايلدرز الدعم الشعبي الذي يحظى به باستهزائه بسياسيين محترفين، ووسائل الإعلام، والصوابية السياسية، وبما أنه خبير في مجال الترفيه بالفطرة استغل شهية وسائل الإعلام اللا أخلاقية للتطورات الدرامية بمناقشته مواضيع حساسة بلغة بدائية قاسية، ووقع خصومه في خطأ الرد عليه بالطريقة الميلودرامية ذاتها، في حين أخطأ خصومه بمحاولة فرض الرقابة عليه.

* دومينيك غرين

* «ويكلي ستاندرد»