الانزياح مصطلح نقدي حديث يمنح النص قراءة ثانية تفتح آفاق الجمال الفني للنص بطريقة مختلفة, وفيه ينصرف القارئ دلاليّاً في فهمه للفظ أو الجملة الشعرية, والاتجاه نحو فهم دلالي آخر, وهو ما يتوافق مع التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية, وهناك من يربطه بالحذف والتقديم والتأخير, أو تقديم ما حقه التأخير, أو تأخير ما حقه التقديم, وتحت مظلة الانزياح تندرج ضروريات القافية والزحافات والعلل في بعض الأحيان.يعد جان كوهن من أهم النقاد الذين أولوا هذا الجانب الأسلوبي اهتمامهم, والذي يرتبط بالتعابير والصيغ اللغوية والإيحاءات والأخيلة والصور والمعاني, أي أنه بعبارة مختصرة يرتبط بكل ما يتعلق بالمجاز اللغوي. ورغم كون الانزياح من المصطلحات النقدية الحديثة, فإن له جذوراً موغلة في القِدم, من خلال ارتباطه بعلم البلاغة, وهو مع هذا يعتمد على عكس رؤية الشاعر للعالم المحيط من حوله, لأن الأديب الناجح والشاعر المبدع هو الذي يعمل على «تحطيم الارتباطات العامة للألفاظ, تلك الارتباطات التي يخلقها المجتمع, وأن يخرج عن السياق المألوف إلى سياق لغوي مليء بالإيحاءات الجديدة « (قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث – محمد زكي العشماوي ص 26)، لأن الشاعر كلما كان قادراً على التعبير بطريقة لا طبيعية عن عالم طبيعي يعيش فيه، كان أقدر على التميز, انطلاقاً من كون اللغة مجموعة من العلاقات المنزاحة التي تتحرك في فضاء فكري واسع.يقول الشاعر فهد عافت:مريم وتضحك, يرق الما, ويصفالي زمانيوالمكان يطيب, والرمان يتكدس هنيّأففي قول الشاعر «يرق الما» وكذلك «والرمان يتكدس هنيّأ» انزياح لغوي, وتعامل غير طبيعي مع وضع مألوف وطبيعي, لأن المعتاد في الكتابة «مريم وتضحك» أن يفرح الشاعر أو يضحك لضحكها أو يطير من الفرح ابتهاجاً بهذه الضحكة وصاحبتها, غير أنه حرف المخيلة والتعبير وجاءنا بطريقة غير معهودة, وهذا ما كان كذلك في قوله «والرمان يتكدس هنيّأ», إذ إنه حينما جاء بـ»والمكان يطيب» فمن المعتاد أن ترتاح نفسه ويزين ناظره ويفرح لطيب المكان, غير أنه جاءنا بتعبير دلالي آخر لا علاقة مباشرة له بالكلام السابق, لكنه منح البيت فضاء روحيّاً ممتدّاً أكسبه حيوية في القبول والتأمل.ولتقريب هذه الصورة إلى الذهن وتسهيلها للفهم, سنورد عدة نماذج شعرية تناولت موضوعاً واحداً, وهو الشوق, لكن من محاور مختلفة, وهذه النماذج الشعرية هي للشعراء عبدالله بن حمود بن سبيّل وضيدان بن قضعان ومساعد الرشيدي.يقول الشاعر عبدالله بن حمود بن سبيّل:وجدي عليهم وجد راعي قحوميتَلحق ولا تِلحق نهار المثاراهفقد صور الشاعر وجده لحبيبته بوجد «راعي قحومي»، أي الفرس الأصيلة التي تقتحم المعارك بلا وجل ولا خوف, غير أن تصويره لم يخرج عن ثقافة عصره, وبمعنى أكثر توضيحاً, لقد انساق وراء وصف الفرس أكثر من مسألة استحضاره كوامن الشوق الموجودة في نفسه, وكأنه ينساق وراء الفهم العربي للغزل من أنه حادث عَرَضي ينتاب القصيدة العربية, من خلال المصطلح النقدي العربي القديم «فن التخلص من الغزل»، وذلك من أجل الدخول في الموضوع, معتبرين أن الهجاء والمدح والفخر هي المواضيع الرئيسية, أما الغزل فلا يعتبر موضوعاً للتفاخر فيه أو التباهي بإنشائه, وعلى هذا عد النقاد المسلمين الأوائل أن الشاعر الأموي ذا الرمة ما هو إلا ربع شاعر لأنه لم يمدح ولم يهجُ ولم يفاخر.هذا الإرث العربي التقليدي, جعل الشاعر عبدالله بن سبيّل, من حيث لا يعلم, ينساق وراء وصف حالة الفرس أكثر من التعبير عن شوقه, إذ صار الشوق ضمن هذا التكثيف للمعنى مرحلة ثانوية في البيت, رغم أنه رأس الموضوع والغرض الذي من أجله تم بناء البيت, مع العلم أنه كان يريد من خلال هذا الاسترسال بالوصف إيضاح مدى شوقه, لكن الشوق غاب أو تم تغييبه من خلال قوله «تَلحق ولا تِلحق نهار المثاراه»، لأن الحديث عن الفرس كان له نصيب الأسد في هذا الشأن.ووفق هذا التوظيف، يقول ضيدان بن قضعان واصفاً شوقه لحبيبته, غير أن وصفه يختلف عن وصف ابن سبيّل, لكنه يسير في محاذاته ولا يلتقي فيه:يا وجودي كل ما هب نسناس الشمالوجد من حدّه زمانه على اللي ما يبيهفالشاعر ضيدان بن قضعان لم يأتِ بجديد يذكر, فقط وضع الثوب الجديد في الدولاب القديم, إذ كان الشطر الأول يحمل معنى شعريّاً عذباً «يا وجودي كل ما هب نسناس الشمال», لكنه عرض شوقه بصيغة وصفية لا بصيغة تعبيرية, أي أن حاله كحال ابن سبيّل, علماً أنه مال إلى ظروف زمانه ووقته حاله حال ابن سبيّل, وبما أنه صاغ البيت بطريقة سلسة ومرنة, فإن قوله الآخر «وجد من حدّه زمانه على اللي ما يبيه»، كان فيه من العنف أكثر ما فيه من الرقة التي تتناسب مع دواعي الشوق ومسبباته, إذ إن هذا الشطر فيه من القسوة ما لا يتوافق مع الشطر الأول, وذلك من خلال الاعتماد على عاملين:العامل الأول: أن الشوق مسألة عذبة, وهو موقف إنساني يمنح الروح البشرية فضاءً شاعريّاً جميلاً.العامل الثاني: أن سياق الشطر الأول كله عذب وجميل وهادئ -كما أسلفنا- بينما الشطر الثاني صاخب وفيه شراسة لا تتوافق مع عذوبة الشوق وجماله, ولا تناغم مع روعة «نسناس الشمال», ولو أردنا تعليل هذا الموقف للشاعر، والبحث له عن منفذ في هذا الموضوع, لقلنا إن الشاعر اشتاق حاله كحال أي إنسان في هذا العالم, وهذا الشوق صادر من رجل معاصر يعيش التقنية والحضارة, لكن شوقه خضع لنمطية التفكير العربي العام في النظر إلى مثل هذه الأمور, رغم ما تميز به على بيت ابن سبيّل الذي لا يدل على الشوق إلا بقوله «وجدي عليهم»، بينما بيت ابن قضعان يضج بالمعاني والأوصاف الأقل حدة.تختلف الحالة هذه, وهي حالة الشوق عند الشاعر مساعد الرشيدي, والذي ابتعد عن الصورة العربية النمطية, ولم يتطرق إلى مسألة الوصف في هذا المجال, إذ كان الأسلوب التعبيري طاغياً على الخطاب الشعري لديه:شوقي مسافة, وهمساتك مدار وفلكإن ما ظميتك غلا... يا علّني ما ارتويكفقد عبر الشاعر عن الشوق بطريقة تختلف عن المتعارف المعهود عليه في السابق, إذ إنه من الممكن المعهود والطبيعي أن يقال شوقي عظيم أو شوقي جارف, أو شوقي قاتل, لكنه صوّر لنا شوقه الذي لا تحده حدوده بهذا التعبير الذي حمل هذا الانزياح «شوقي مسافة» ليترك مجال التخيل على مصراعيه للقراء والمستمعين, رافداً هذا الانزياح بانزياح لغوي آخر لا يقل عنه جودة وتمكناً «وهمساتك مدار وفلك», فمساعد الرشيدي لم يضع شوقه هنا مقابلاً لشيء آخر كوجد «راعي القحومي»، والتي «تَلحق ولا تِلحق نهار المثاراه», ولا هو وضع وجده خاضعا لظروف الطبيعة «كل ما هب نسناس الشمال», ولو لم يكن هناك «نسناس الشمال» لما كان لشوقه أي وجود, علاوة على أن تصويره بحالة وصفية يدل على حالة الضيق والعسر والشدة «وجد من حدّه زمانه على اللي ما يبيه», وهذا الظرف الاستثنائي يتوافق ظاهريّاً مع وصف ابن سبيّل «تَلحق ولا تِلحق نهار المثاراه», أما مساعد الرشيدي فلم يضع شوقه في حال مقارنة مع شيء آخر, ومن ناحية أخرى أنه عبّر عن شوقه بطريقة لم يعتَد عليها الناس في التعبير.
مقالات
الشاعر المبدع هو الذي يعمل على «تحطيم الارتباطات العامة»
13-08-2010