يثير كتاب د. سلطان الدويش عن مقابر الصبية والسكان الذين عاشوا شمالي جون الكويت قبل آلاف السنين الكثير من الأسئلة التي لا يسهل الإجابة عنها، وقد لا تجدي بعض الوسائل المعروفة في تحديد هويتهم، كاستخدام عنصر الكربون 14 المشع. وذلك بسبب فتح المقابر وتعرضها، أي محتوياتها، لحريق النفط عام 1990، وما شهده ذلك العام من أحداث كارثية إثر غزو الكويت، من حرق آبار النفط، "مما أدى إلى تلوث العظام، ولم تثمر العديد من المحاولات لتحليل الكربون الإشعاعي C14". ويؤكد د. الدويش "أن تعرض المقابر للفتح والسرقة هو ما ساعد على تعرض هذه الهياكل إلى الأمطار والتهوية التي سببت فقدان مادة الكلوجين، وبالتالي عدم الاستفادة من مجموعة التحاليل التي قمنا بها حتى الآن". (ص82).

ويتحدث الكاتب عن "المقابر الدائرية" بتفاصيل وافية، ثم "المقابر البيضاوية" ومنها قبر يقع في وسط أرض منخفضة في كاظمة على ربوة صغيرة، ويتحدث عن مكتشفات بعض القبور فيقول: "عثر في داخل القبر على جرس نحاسي هرمي الشكل على الأرضية الطبيعية مباشرة ملاصق للجدار الشرقي للقبر، وهذا هو الأثر الوحيد الذي عثر عليه في الداخل، أما في خارج القبر من الجهة الجنوبية الشرقية فقد عثر على حلقة من الصدف دائرية الشكل وكأنها خاتم، كما عثر على كسرة فخارية لجرة، ومن المحتمل أن الحلقة والكسرة الفخارية كانتا من ضمن الأثاث الجنائزي الذي وضع مع الميت، لكن العثور عليها خارج القبر يعتبر مؤشرا على سرقة القبر لاحقا". (ص136).

Ad

ويصف الكتاب محتويات قبر آخر لم يتعرض للتخريب فيقول: "ملئت غرفة القبر بالرمل وغطيت في جزئها العلوي بالحجارة، وتوجد طبقة من الرمل (ارتفاعها نحو 0.20م) فوق الرصيف، وتحتوي على شظايا عظام بشرية عديدة مبعثرة تشمل أجزاء من جمجمة وسن مكسورة، كما كانت تحتوي بالمثل على خرزات عديدة مختلفة ومبعثرة مصنوعة من الأصداف البحرية في المقام الأول، وإن كان بعضها مصنوعا من اللازورد، بالإضافة إلى لؤلؤة واحدة. ومحتويات القبر المختلطة- مع عدم وجود أي آثار تدل على تعرض المقبرة لأعمال تخريب- تبرر تفسير استخدام هذا القبر كقبر ثانوي، وهي عادة في الدفن كانت معروفة بين البدو في العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي كذلك". (ص167).

ومن مقابر قدماء سكنة الصبية التي يصفها كتاب د. سلطان الدويش "المقابر القمعية"، وهي التي تشبه القمع، حيث "تتسع في الأسفل وتضيق من أعلى، ومنها مدافن "الردحة الشمالية" ومقابر أخرى "على شكل فرن فخاري"، ويصفها الباحث بأننا "أمام وحدة بنائية رائعة في التصميم والبناء، وهذه المقابر تشبه مقابر بيرين في شرق المملكة العربية السعودية التي كشف عنها عام 1968 من قبل البعثة الدنماركية، وكتب عنها جفري بيبي وأرّخها بالعصر البرونزي الوسيط. (تقريبا: 150 ق.م)".

ويتحدث الباحث عن "المقابر المستطيلة"، والقبر المستطيل كما يصفه د. الدويش، "مبنى مستطيل الشكل شيد من الأحجار المختلفة القياسات تتراوح أطوالها في أغلبها ما بين 7 إلى 20 مترا، أما عرضها فيبلغ قياسه ما بين متر ونصف إلى مترين".

ويصف الكتاب كذلك "المقابر المذيلة"، ومثل هذا القبر، يقول الباحث، "مبنى دائري الشكل ملحق به ذيل على شكل صف من الحجارة الممتدة إلى مسافات طويلة، وأعتقد أن هناك سببا دينيا مرتبطا بوجود هذا الطراز، وقد وُجِد أشباه له في المملكة العربية السعودية، بعضها يصل الذيل فيه إلى كيلو متر"!

ونعود قليلا إلى ورقة د. محمود أبو العلا المشار إليها في مقال سابق عن "خصائص البيئة الجغرافية لحوض الخليج العربي" لننقل هنا بعض نتائج تلك الدراسة عن الهجرات السكانية في المنطقة الخليجية في مراحل ما قبل التاريخ.

يقول د. أبو العلا إن العصر الحجري القديم قد بدأ منذ مليون عام، وانتهى عام 25 ألف قبل الميلاد. ويضيف أنه في عام 8000 ق.م بدأ عصر حجري حديث، توافدت خلاله على حوض الخليج جماعات بشرية عديدة أخذت تبحث عن طرق أخرى لغذائها بدلاً من جمع القوت الذي شح، عن طريق الجمع، فاحترفت الزراعة أو تربية الحيوان وأصبحت هذه الجماعات البشرية منتجة للقوت بدلاً من أن تكون جامعة له. ولكن من أين جاءت هذه الجماعات؟ يضيف د. أبو العلا، أنه في العصر الحجري الحديث، توافد إلى غرب الخليج العربي سلالات من جنس البحر المتوسط، واستقرت إلى شماله أيضا السلالات نفسها، ثم عناصر إفريقية عرفت طريقها إلى جنوب شبه جزيرة العرب وجنوب الخليج العربي.

وعن تاريخ الجنس العربي في المنطقة الخليجية يقول د. أبو العلا: "إن كلمة العروبة لفظ "سامي" معناه سكن البادية وهي بهذا تمثل نمطاً حضارياً معيناً هو "الحياة الصحراوية". وقد أطلق الآشوريون هذه التسمية في القرن التاسع قبل الميلاد على جيرانهم سكان الخيام في الصحراء.

وقد ورد في نقش الملك الآشوري شالمنصر الثالث عام 854 ق.م نص يشير فيه إلى حروبه مع "جندب العربي" وانتصاره عليه واستيلائه على غنائم من الإبل، وهذه أول إشارة في التاريخ تشير إلى العرب والعروبة.

ثم تطورت هذه التسمية حتى شملت كل شبه جزيرة العرب سواء منهم من يسكن الخيام ويشتغل بالرعي أو يسكن القرى ويعمل في الزراعة أو يسكن المدن ويشتغل بالتجارة. وقد أورد الكتاب الإغريق في القرن الثالث قبل الميلاد تسمية "شبه جزيرة العرب" ويقصدون بها شبه جزيرة العرب بوصفها الذي تعرف به الآن". (المرجع نفسه ص 103).

ويناقش د. أبو العلا الموضوع من زاوية أخرى فيتساءل: هل العناصر السامية من جنس البحر المتوسط الذي سكن حوض الخليج العربي في الألف السابع قبل الميلاد، غير العناصر السامية التي أطلق عليها الآشوريون كلمة "عرب"؟

ويجيب د. أبو العلا: "إن بيئة شبه الجزيرة العربية منذ بدء العصر الحجري الحديث وجلبه الجفاف المتزايد في ركابه تعتبر بيئة فقيرة غير مضيافة، أي أنها لا تجذب إليها هجرة بشرية من خارج شبه الجزيرة للإقامة فيها لأن شبه الجزيرة العربية صيفها شديد الحرارة 110 ف، وسواحلها ترتفع بها الرطوبة مما يجعل الحياة قاسية جدا، ثم الزوابع الرملية أو الترابية التي لا يخلو منها شهر من شهور العام، والتي تكثر خلال الفترة من مارس إلى أبريل، وكذلك قلة موارد المياه أو ندرتها تجعلها مكاناً لا تستحب الهجرة إليه".

ويضيف مستنتجاً: "إن العناصر السامية التي عمرت شبه جزيرة العرب كما عمرت غرب الخليج العربي وشماله- في الألف السابع قبل الميلاد- هي بعينها التي أطلق عليها الآشوريون كلمة "عرب".

ولهذا لا نجد حرجاً في أن نسمي العناصر السامية التي سكنت الخليج منذ القدم بالعناصر العربية أو القبائل العربية".

وينفي د. أبو العلا أن يكون السومريون هم السكان الأوائل لسهول العراق في شمال الخليج العربي، ويقول: "هناك نقطة أخرى، وهي أن هناك فكرة تتوافر في المراجع العلمية تذكر أن السومريين هم السكان الأوائل لسهول العراق في شمال الخليج العربي، والمعروف أن السومريين أو الشومريين وفدوا إلى سهول العراق وأنه لم يعرف بعد على وجه التحقيق المكان الذي هاجروا منه ولا السلالة الجنسية التي ينتمون إليها. فالبعض يقول إنهم وفدوا من شمال الهند، والبعض يذكر أنهم وفدوا من القوقاز والبعض يذكر أنهم وفدوا من منطقة سوسة أو شوسن غربي مرتفعات زاغروس من حوض نهر "ذر".

الذي يهمنا الآن هو أن السومريين عناصر غير سامية وافدة إلى سهول العراق، ولكن هؤلاء السومريين ليسوا السكان القدامى لسهول العراق، وأن السكان القدامى الذين سبقوا السومريين في سكن سهول العراق هم العبيدون نسبة إلى تل العبيد بالقرب من مدينة أور ويسمون كذلك من قبل الفراتين pre-Euphrates. (ص104).

ويجزم د. أبو العلا في ورقته بأن "سكان شمال وغرب الخليج كانوا من العناصر السامية أو العربية منذ الألف السابع قبل الميلاد".