يفتح تقرير وكالة موديز للتصنيف الائتماني، الذي أصدرته عقب نتائج الانتخابات البرلمانية الكويتية، الباب لنقاش لا يطرح غالباً على الساحة الاقتصادية حول مدى جودة أو حيادية أو على الأقل دقة التقارير التي تصدرها وكالات التصنيف والمؤسسات المالية الدولية عن الكويت وربما الخليج عموماً.

فتقرير «موديز» يفترض سعي الحكومة لتنفيذ إصلاحات مالية واقتصادية تهدف إلى خفض الاعتماد على النفط، ومن ثم يرى أن نتائج انتخابات مجلس الأمة ستعوق هذه الجهود، مانحة مستقبل الإصلاحات نظرة سلبية.

Ad

ولعل هذا التقرير- وقبله تقارير دولية متعددة - يرى الإصلاح الاقتصادي في الكويت بعين واحدة، هي عين الرأي الرسمي الحكومي في هذا الإصلاح، والذي يحمّل المجتمع معظم الاختلالات الخاصة بالاقتصاد والمالية العامة، دون انتقاد الإدارة المكلفة هذه الملفات، فتجد مثلاً تركيزاً عالياً على الدعوة لتقليص المصروفات العامة في بندي الرواتب والدعوم، وهي مصروفات تحتاج إلى إعادة هيكلة دون شك، دون توجيه أي ملاحظات إلى الإنفاق الاستثماري على المناقصات والمشاريع، الذي لا يوفر عوائد اقتصادية للدولة، سواء للإيرادات العامة أو لناحية توفير فرص العمل.

انسلاخ عن الواقع

إن العديد من التقارير الدولية تدعو إلى زيادة الإنفاق العام على المشاريع والمناقصات باعتبارها أحد أهم أوجه الإصلاح الاقتصادي، دون أن تبين مدى فاعلية هذا الإنفاق، وما إذا كانت الاستفادة ستكون لشريحة محدودة أم لمصلحة الاقتصاد بشكل عام، فضلاً عن أن بعض التقارير الدولية منسلخة تماماً عن الواقع المعيشي لدولة كالكويت، طقسها يعد الأشد حرارة عالميا خلال الصيف، ومنها، مثلاً، اعتبار البنك الدولي أن «دعم الطاقة المفرط في الكويت جعل استخدام الأجهزة الكهربائية، والمكيفات تحديداً، أعلى مما يجب»!

التقارير المالية الدولية غالباً ما تَعتبر الأوضاع الاقتصادية في الخليج أفضل بكثير من الكويت، لعدم وجود مجالس برلمانية فيها قدر محدد من الرقابة في هذه الدول، ومن ثم فهي لا تهتم كثيراً بمعدلات الشفافية ولا مستويات الفساد المالي والإداري ولا مدى خبرة حكومات الخليج في تنفيذ عمليات خصخصة كبرى لقطاعات حيوية وشعبية، والمهم لديها فقط مدى الخفض في الإنفاق العام على الرواتب والدعوم، وهي تعتبر وجود أي صوت معارض للتوجهات الحكومية في الإنفاق الاستثماري والخصخصة وتقليص الدعوم معوقاً للإصلاح.

عين واحدة

وبالطبع من غير الوارد أن تصدر «موديز» أو غيرها تقريراً يناقش أثر التشكيل الحكومي الجديد - بعد إعلانه - على الإصلاح الاقتصادي، مع أن الأثر الحكومي في الاقتصاد والقرارات والقوانين أكثر فاعلية من البرلمان.

ودون الخوض في المزيد من السياسة، فثمة شبه إجماع على أن مجلس الأمة السابق 2013 كان الأكثر طواعية للحكومة على مدى تاريخ الممارسة البرلمانية، ورغم ذلك لم تحقق الكويت أي تقدم على أي صعيد اقتصادي أو تنموي لا على صعيد الإيرادات العامة ولا سوق العمل ولا على هيكلة الإنفاق العام، مما يزيد اليقين بأن هذه المؤسسات الدولية وتقاريرها ترى الإصلاح الاقتصادي بعين واحدة.

بالطبع، لا يمكن نفي الشعبوية عن العديد من الاقتراحات والقوانين ذات الطابع الانتخابي على مدى مجالس برلمانية متعددة، إلا أن تحميل البرلمانات وحدها مسؤولية إعاقة الإصلاحات الاقتصادية دون الإدارة المسؤولة مباشرة عن تنفيذ هذه الإصلاحات ينطوي على قدر كبير من عدم الحيادية لمؤسسات يفترض أنها تقدم دراسات وتقارير مهنية وشفافة.

استشارة أم قرار

قد يقول قائل: ما الضرر من انحياز تقارير اقتصادية لسلطة دون أخرى مادامت في سياق النشر وإبداء الرأي؟

في الحقيقة، إن تقارير «موديز» تحديداً ليست للنشر وإبداء الراي فقط، بل إنها كانت على جدول أعمال مجلس الوزراء قبل عدة أشهر، على اعتبار أن ملاحظاتها ومقترحاتها للاقتصاد الكويتي من المسلمات الواجب تنفيذها، بل إن الحكومة أصدرت تعهدات بمعالجة ملاحظات الوكالة الدولية، وكأن «موديز» هي مجلس الوزراء الذي يتولى إدارة الكويت، فضلاً عن تغلغل العديد من المؤسسات الدولية، وهي غالباً شركات ربحية، في مفاصل اتخاذ القرار الاقتصادي الكويتي على هيئة مستشارين لوزارة المالية وأجهزتها التابعة.

المعلومة من المسؤول

وخلال عامين باتت شركات «آرنست أند يونغ» و«ماكنزي» و«أوليفر وايمن» من مرتكزات إعداد القرار الاقتصادي في الكويت- وشركات أخرى في دول الخليج أيضاً- وزاد الحديث بشكل قوي عن التوجه إلى سوق الدين العام والخصخصة وإعادة هيكلة الدعوم للمستهلكين والرواتب، دون أي حديث عن الهدر الحكومي والفساد المالي اللذين لا يخلو اأ تقرير لديوان المحاسبة منهما، إلى جانب إعادة هيكلة الإنفاق الاستثماري ليكون مجدياً من الناحية الاقتصادية، فالشركات الأجنبية تنطلق في تحديد رؤيتها للإصلاح الاقتصادي من رؤية المسؤول الحكومي الذي يحمّل المجتمع غالباً أعباء سوء الإدارة مقابل قصور في معرفة المكونات الاجتماعية والثقافية والمعيشية لشرائح المجتمعات في الخليج، فضلاً عن أن محدودية المشاركة الشعبية في الإدارة العامة ربما تتطلب جرعات أكبر من الإنفاق على الوظائف والدعوم لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهذا ما لا يقوله المسؤولون الحكوميون ولا تفهمه المؤسسات المالية الدولية.

ليس هناك ضرر في الاستعانة بأي مؤسسة عالمية ربحية كانت أو غير ربحية، كالبنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، للاستفادة من خبراتها، لكن العلة في الكويت أن هذه الاستعانة تتحول تدريجياً إلى اتخاذ قرار، فضلاً عن أنها تنطلق من معايير تحول الدولة إلى شركة خاصة. فمن يطلع على تقرير «آرنست أند يونغ»، مثلاً، سيلمس تركيزاً على استهداف للطبقة الوسطى من خلال مقترحاتها الخاصة بالدعوم على السلع والخدمات، فضلاً عن قصور في فهم طبيعة المجتمع يجعل للحلول المحاسبية البحتة آثاراً اجتماعية واقتصادية وربما سياسية غير محمودة.