تفادى الكاتب الصحافي لويس جريس المواقف كافة المحملة بالطاقة السلبية في علاقته بزوجته الفنانة سناء جميل، وبحث عن مواقف أخرى تحافظ على حبهما وتدعم ارتباطهما. نجح في التوصل إلى صيغة تمكنه من النجاح، ليس فحسب في التعامل مع موهبة متفردة بحجم زهرة الصبار، بل ودعمها أيضاً وهو الأهم. كذلك المساهمة في اختمار موهبتها وثقافتها من دون وصاية عليها. باختصار، نجح في خلع عباءة الرجل الصعيدي الغيور على زوجته، وفي الوقت نفسه من دون الإخلال بعهد محبته لها والتزامه نحوها وشد أزرها.

يقول لويس: «بعد زواجي من سناء انتابتني حالة من فقدان التوازن والضيق لدرجة شعرت معها بأن الزواج كان قراراً خاطئاً. أدركت أن الارتباط بفنانة مسألة ليست سهلة وأن مصيرنا الفشل، فهي فنانة مشهورة، قدمت أعمالاً مسرحية ناجحة، وأفلاماً عدة نالت عن أحدها جائزة تمثيل دولية، فيما أنا ما زلت في بداية مشواري، وغير معروف، خصوصاً بعدما تعرضت لكثير من المواقف السخيفة جداً. مثلاً، عندما قدمت سناء فيلم «فجر يوم جديد» وكان ثمة مشهد بالفيلم تنام فيه على السرير إلى جوار ممثل شاب، وفوجئت في العرض الخاص للفيلم بزميل صحافي يسألني بسخافة: إيه شعورك وأنت شايف مراتك نايمة جنب راجل تاني».

Ad

يواصل لويس: «كنت أدرك تماماً أن ثمة للأسف نظرة متدنية إلى الفن والنجمات، وأحكاماً أخلاقية تصدر بشأنهن وخلطاً بين حياتهن الخاصة وما يقدمن من أدوار. وفي الوقت ذاته، كنت أعي تماماً أن عملها هو الفن، لذلك لم أعارضها أبداً واحترمت موهبتها واختياراتها. وللحقيقة، تلقيت في تلك الفترة نصائح مهمة عدة ساعدتني في تجاوز هذه المحنة، والأهم في الخروج بعلاقتنا إلى بر الأمان».

نصائح

«أنت متزوج موهبة عظيمة، عليك أن تبذل كل ما في وسعك لتصبح اسماً كبيراً يقف على قدم المساواة مع تلك الموهبة»، كانت تلك أولى النصائح التي تلقاها لويس جريس من الفنان والشاعر الراحل صلاح جاهين، وساعدته كثيراً في تجاوز أزمته التي كادت تنعكس عليه سلباً على المستويات كلها، فظلّ يخطو نحو مستقبله بثبات ونجاح، والأهم في صمت ليصبح الكاتب الصحافي لويس جريس وليس «زوج سناء جميل».

أما الكاتب المسرحي ألفريد فرج فوصفها «بالثروة القومية» التي يجب الحفاظ عليها، وهو ما ألمح إليه الأديب الكبير إحسان عبد القدوس الذي راح يؤكد للزوج الحائر أنه بقدر ما ستزدهر موهبة زهرة الصبار سيخلد اسمه هو شخصياً، محذراً إياه من معاملتها كرجل صعيدي تقليدي لأنه بذلك سيقضي على تلك الموهبة المتفردة.

صديقه المقرب الكاتب الراحل لويس عوض نصحه بدوره بأن يحول بينها وبين القراءة، قائلاً «حذارِ أن تقرأ»، مؤكداً أن الكتب تصيب الفنان بالاكتئاب، على أن يهتم بتثقيفها بأن تجلس وسط المثقفين فتستفيد من مناقشاتهم وفي الوقت نفسه تظلّ فطرتها نقية، ما سينعكس على الشخصيات التي تجسدها، وأكّد أن الكتب تتحوّل إلى قيود تحدّ من انطلاقة التعبير الفطري لدى الفنان.

وهكذا شعر لويس جريس بأن لديه «مهمة قومية» لا بد من إنجاحها وإزالة العوائق من طريقها، وعليه تغيرت مفاهيم عدة لديه، وهو ما أكده في حواراته مراراً.

أما هي فتذكر: «كان حريصاً على ألا يطغى أي شيء على تركيزي، والأهم ألا يضع علاقتنا تحت المجهر أسوة بزيجات الوسط الفني، ما يفسر أن أول صورة فوتوغرافية تجمعنا نشرت عام 1975 أي بعد مرور 15 عاماً على زواجنا، كذلك استسلم ووافق على طلبي بعدم الإنجاب كي لا تشغلني التزامات الأمومة، وكلها تضحيات كانت وستظل تؤثرني حتى آخر لحظة في حياتي».

وتواصل: «زوجي إنسان عظيم، أمّن لي حياتي وبعث فيّ الثقة. تحملني كثيراً لأنني إنسانة عصبية جداً».

الصدام

لم يكن لويس معتاداً على حياة الفنانين. كانت زوجته تخرج بمفردها وتتأخر في عودتها حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، وتسافر من دونه كثيراً، وتتصل بأشخاص لا يعرفهم، وغيرها من أمور لم يعتدها بسهولة الزوج الصعيدي، إلى أن جاء اليوم الموعود وحدث الصدام...

توضح زهرة الصبار: ذات يوم، كان لويس عائداً من عمله في المجلة وكان لدي بعض الأصدقاء، وفوجئت به يدخل مباشرة إلى حجرة النوم ومن دون المرور على غرفة استقبال الضيوف، وعندما تأخر في الخروج ذهبت لاستعجاله»...

سناء: إيه يا لويس ماجتش ليه تقعد معانا؟

لويس: لأني راجع تعبان.

ثم واصل بحدة: أنا باجي بيتي علشان أرتاح، وبعدين يا سناء إحنا لازم نضع قواعد للبيت.

سناء بهدوء في محاولة لامتصاص غضبه: قواعد إيه يا لويس؟

بعصبية أجابها: لما يكون عندك نية لدعوة زملائك أو أصدقائك في البيت لازم تقوليلي قبلها، كمان ما ينفعش تقبلي دعوة من أي حد إلا بعد ما نتناقش فيها ونشوف حنقبلها أو لا.

سناء: حاضر يا لويس ...

وهكذا امتصت سناء غضب زوجها ووافقت وبهدوء على شروطه كافة، ومرّت الأزمة على خير، وللأمانة ووفقاً لتصريحات زوجها ظلت محافظة على هذا العهد الذي اتفقا عليه ومن دون تبرم أو ضيق حتى وفاتها.

يقول جريس: «لم تكن سناء جميل مجرد زوجة رائعة، ولكنها كانت الأم والأخت والصديقة التي كنت أشكو إليها منها عندما أرغب في ذلك، وقلما حدث ذلك. حتماً أفتقد الآن إلى حنانها وقسوتها، وإبداعها، أشتاق إلى صوتها وضحكتها وهمسها. أغفو كل يوم على أمل بأن أجدها إلى جواري في الصباح الباكر. وحدها التي عرفت كيف تصنع لي عائلة كاملة من أب وأم وأطفال يلعبون ويجلجلون في أرجاء المنزل من دون أن نملك رائحة الأطفال. لن أنساها ولم ترحل، وعندما أشعر بالافتقاد الموحش أشاهد أحد أعمالها فأشاهدها وهي تتحرك حولي وليس على الشاشة».

الليلة يا عمدة

مع بداية الستينيات، دخلت سناء جميل حالة من النشاط الفني فقدمت «فجر يوم جديد» مع المخرج يوسف شاهين، وشاركت المخرج حسين كمال أولى تجاربه «المستحيل»، قبل أن ترتبط بعالم توفيق الحكيم مسرحياً وتقدّم «عودة الشباب» التي تستعرض أجواء الحلم المرتبط برغبة في تجديد الحياة، ثم «شمس النهار» التي تتناول كيفية تغيير الإنسان وتبصيره بمتغيرات المجتمع الجديد، و«مصير صرصار» حيث يسحق الرجال تحت سطوة الزوجة الباطشة، وأخيراً «شهرزاد» وأجواء ألف ليلة وليلة الفانتازية الساعية إلى معرفه حقيقة الإنسان.

أما أبرز محطات تألقها في تلك الفترة فكانت من خلال فيلم كان وسيظلّ علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية وهو «الزوجة الثانية» مع المخرج صلاح أبو سيف، عن قصة للأديب أحمد رشدي صالح، وكتب له السيناريو الكاتب الكبير سعد الدين وهبة مع مصطفى سامي. أثبتت سناء جميل مجدداً قدرتها المذهلة على تفهم أبعاد أية شخصية يعهد إليها بتجسيدها، فحفيظة الزوجة الأولى للعمدة ليست في ضعف نفيسة التي جسدتها بحرفية في «بداية ونهاية». صحيح أن نقطة ضعفها الوحيدة كانت أنها عاقر، لكنها استمدت قوتها من ميراثها في مواجهة جشع زوجها العمدة. من هنا تراوح أداؤها بين ضعف الإحساس بالنقص والقوة المستندة إلى سطوة المال، ودلال الأنثى الراغبة في الاستحواذ على كل شيء والانتصار أمام أنثى أخرى أكثر منها جمالاً ودلالاً ونضارة، ذلك كله في إطار من الأداء الكوميدي الراقي، الذي فوجئ جمهورها به.

تتذكّر سناء التجربة: «أصر المبدع صلاح أبو سيف على أن أمشي على «الجَلّة» (الروث وهي أقراص دائرية تُصنع من روث الحيوانات كالأغنام والأبقار، بعد تجفيفها تحت أشعة الشمس وتخزينها، للاستفادة منها في إشعال النار) مثل أي فلاحة. من جانبي، لم أعترض لحرصي على معايشة الشخصية بشكل حقيقي وتجسيدها بواقعية. إلا أنني بمجرد أن بدأ التصوير لم أستطع تحقيق رغبته، خصوصاً أن «الجلّة» كانت لا تزال «طرية»، ورفقاً بي وافق أبو سيف على اقتراح مساعديه بأن ألف قدمي «ببلاستر» شفاف لن تظهره الكاميرا ولكنه سيقنعني نفسياً بتقديم المشهد».

تواصل جميل سرد ذكرياتها عن «الزوجة الثانية»، قائلة: «عندما قرأت السيناريو أدركت أن مشهد القطار الذي أتمدد على سكته قبل أن يمرّ فوقي هو أصعب مشاهدي في الفيلم، لذا حشدت طاقتي نفسياً وبدنياً لتقديمه كما ينبغي. غير أنني فوجئت بالمخرج يطلب مني أن أتمدد إلى جوار السكة في اللحظة التي يمرّ فيها القطار، وعبثاً حاولت إقناعه بأنني مستعدة لتجسيده كما ينبغي لتكون مشاعري أكثر واقعية والأهم حقيقية، غير أنه رفض بشكل قاطع، وطالبني بأن أستحضر مشاعري حينما يمرّ القطار على أساس أنه يمرّ فوقي، ونفذت ما طلبه مني على مضض وما زلت أنزعج كلما أشاهد هذه اللقطة لإيماني بأن الصور لم تظهر فزع الشخصية بشكل حقيقي، رغم الإشادات الكثيرة التي تلقيتها».

أما مشهد «الليلة يا عمدة» الذي ما زال محفوراً في أذهان الجمهور حتى الآن، فتؤكد سناء أنه كان وليد لحظة ارتجال أمام الكاميرا، إذ فوجئت بنفسها تردده، ونال إعجاب الحضور، وفي مقدمهم أبو الواقعية أبو سيف.

الزلزال

زلزلت هزيمة 1967 الأرض، وكردّ فعل على آثارها النفسية انتشرت ألوان من الفنون تعادي الجدية والالتزام الفكري، وتبحث عن هزل رخيص وترفيه لاغٍ للعقل، وهو كان ظرفاً زمنياً شديد الحساسية أدركته سناء وكل من ينتمي إلى تيار الجدية والالتزام. كانت حائرة كيف يمكن أن تؤدي دورها الذي اختارته منذ احترفت الفن ولكن وسط ظروف مغايرة، لذا وافقت على أن تمثل ولأول مرة مع فرقة «المسرح الكوميدي» أدواراً بعيدة عن نفيسة وشهرزاد وشمس النهار وغيرها، ولكن والأهم «غير مسفة»، وفعلاً اختارت الممتع والراقي الذي لا يحط من كرامة الفنان والمشاهد معاً.

وكانت «زهرة الصبار» التي أعدها الأديب الراحل يوسف إدريس عن نص للكاتبين الفرنسيين جان بارييه وجان كلود جريدي، وأخرجها كمال ياسين (وزير الثقافة في مصر آنذاك ثروت عكاشة رشح النص للترجمة والإعداد مسرحياً).

اللافت أن المسرحية تحوّلت لاحقاً إلى فيلم سينمائي أخرجه فطين عبد الوهاب بعنوان «نص ساعه جواز»، أدّت بطولته القديرة شادية مع رشدي أباظة. تدور أحداثه حول شخصية جيهان التي تهيم عشقاً بطبيب الأسنان الذي تعمل معه (أداه بتفوق الفنان عبد الرحمن أبو زهرة)، فنراها تهتم بشؤونه كافة، بينما هو لاهٍ عنها بحب فتاة أخرى (أدّت دورها في المسرحية والفيلم ماجدة الخطيب). ومع تعقد علاقة الطبيب بالفتاة، تتكشف أكثر أبعاد شخصية الممرضة الإنسانية العطوف المضحية لأجل سعادة حبيبها حتى لو على حساب عواطفها وآمالها في الاقتران به.

كالعادة، جاء أداء سناء رصيناً ومتفهماً دواخل الشخصية النفسية، فجيهان في «زهرة الصبار» تشارك نفيسة في عطائها اللامحدود، لكنها أبداً لم تكن في ضعفها وانسحاقها. ربما كانت قوية مثل حفيظة في «الزوجة الثانية» لكنها قوة الاحتواء وحب الغير وليست الغطرسة والرغبة في الاستحواذ.

كانت جيهان قوية من داخلها، تتغلب كالصبار على جفاف عواطف الآخرين بعواطفها الخصبة ومشاعرها الندية، وربما كان إبداعها في تجسيد هذه الشخصية تحديداً راجعاً إلى كونها على المستوى الشخصي كانت تحمل كثيراً من ملامح «زهرة الصبار»، كما صرحت بذلك أكثر من مرة.

على أية حال، فإن سناء جميل كانت أكثر حماسة لتجسيد شخصيات تتسم بقوة داخلية مع اختلاف أسبابها أو مظاهرها الخارجية، والأمثلة كثيرة ومتنوعة لعل أبرزها فضة المعداوي في «الرايا البيضا» رائعة الثنائي محمد فاضل وأسامة أنور عكاشة، كذلك الدكتورة رأفت في مسلسل «عيون»، وحتى سلوى في «ساكن قصادي» لم تخلُ من قوة.

كذلك «الحصان» و«الزيارة» آخر أعمالها على المسرح، و«الشك يا حبيبي»، و«المجهول»، و«السيد كاف»، و«سواق الهانم» و«اضحك الصورة تطلع حلوة» آخر أفلامها السينمائية... كلها أعمال حرصت الممثلة على أن تظهر الكامن من قوتها.

ونتيجة لنجاحها الكبير في تجسيد جيهان مثلت مع الفرقة نفسها «الصعلوكة»، المرأة الارستقراطية المزواجة، ولكنها لم تنل القدر نفسه من النجاح، فعادت إلى بيتها الأصلي «المسرح القومي» لتقدم نص «ليلة مصرع غيفارا» لميخائيل رومان، ومن إخراج كرم مطاوع، وهو دور لم يضف إليها جديداً رغم اجتهادها فيه، ما جعل الناقد رجاء النقاش يوجه إليها عتاباً نشرته مجلة «المصور» تعجب خلاله كيف تهدر موهبتها لأجل «اللاشيء»، مشيراً إلى أنه دور غامض، وقاتم، ومرتبك خطابياً ولا قيمة له.

نعي مختلف

على عكس السائد والمتداول، جاء نعي الراحلة سناء جميل الذي كتبه زوجها الكاتب الصحافي لويس جريس معلنا «حياة» وليس «موت» سناء جميل. لم يعدها إلى اسمها الأول «ثريا يوسف عطا الله»، ولم يقرنها بعائلة طردتها لأنها اختارت الفن، فهي قريبة ونسيبة جميع الفنانين في العالم العربي..

كتب «التقينا عام 1960 وتزوجنا عام 1961 واحتفلنا في يوليو الماضي بعيد زواجنا الحادي والأربعين... وسناء جميل التي رحلت عن دنيانا جسدياً هي قريبة ونسيبة جموع الفنانين في العالم العربي. الفن في حياتها محراب مقدس، ورسالة تدقق فيها بشدة حياتها الفنية تشهد بذلك... وسوف يصلى على جثمان الفقيدة في الكنيسة البطرسية في العباسية».