بدت حياة هند رستم سلسلة من المحطات المهمة، وتسارع إيقاع الصعود إلى القمة، فحظيت بلقب «الجوكر» بين نجمات عصرها، وبصداقات مع مشاهير الأدب والفن والصحافة. كذلك خلع عليها العقاد لقب «ملكة التعبير»، وصارت من عشاق صوت أم كلثوم، وتعاملت مع كبار المخرجين. فضلاً عن أن نضجها الفني بدا لافتاً جداً في تقمّصها شخصيات مركبة، وارتداء قناعي الدراما التراجيدية والكوميدية.

ولكن النجمة عاشت صدمات الفقد سنوات طويلة. تلقت أكبر صدمة في حياتها عام 1956، عندما علمت بوفاة والدتها في الإسكندرية، وكانت حينها تصور مشاهدها في فيلم «عواطف» مع كل من محمود المليجي وكمال الشناوي.

Ad

تدهورت الحالة النفسية للنجمة آنذاك، فانقطعت فترة عن نشاطها الفني، وأصابتها آلام شديدة في الصدر، فحذرها الأطباء من العصبية الزائدة، والإفراط في التدخين.

في إثر ذلك، خضعت هند للفحوص واكتشف طبيبها انسداد أربعة شرايين بسبب حزنها الشديد على أمها، فنصحها بالذهاب إلى أميركا لإجراء جراحة عاجلة. وبعدما توقفت عن التدخين لمدة ثلاث سنوات، عادت لتدخن عشر سجائر يومياً ضاربةً عرض الحائط بنصائح الأطباء، ولم تتوقف عن انفعالاتها وعصبيتها، والاندماج الزائد في تجسيد أدوارها على الشاشة.

اشتهر نجمان بالوساوس، عبد السلام النابلسي وهند رستم. اعترفت الأخيرة بأنها عاشت حياتها «موسوسة وعصبية» وتهتم كثيراً بالنظافة، وتغسل يديها يومياً أكثر من عشر مرات، وكانت إذا ذهبت إلى عيادة طبيب لا تلمس مقبض الباب، وتضع المطهر على يديها.

كذلك تسبّب عشقها الجارف للتمثيل في نوبات قلق واكتئاب، لا سيما بعد فيلمي «شفيقة القبطية» و«الخروج من الجنة». جسدت في الأخير دور فتاة تحب المطرب (فريد الأطرش) ولكنها تتزوج من رجل آخر، وتتطلّب تجسيدها هذه الشخصية الصعبة ترجمة انفعالاتها الداخلية من خلال ملامح وجهها وجسدها، ما أفضى إلى شعورها بإرهاق شديد، من فرط تقمّصها الشديد للشخصية المركبة.

قصة حب

دخلت هند رستم إلى بداية الستينيات نجمة حققت أفلامها نجاحاً هائلاً، وامرأة كرّست حياتها للفن وتربية ابنتها «بسنت»، وزوّجتها الإشاعات من بعض زملائها النجوم، واجتاحتها صدمة نفسية بعد موت أمها بداء السرطان، وتحوّل حزنها إلى وساوس وعصبية زائدة، وتوهّمت بأنها أصيبت بالمرض الخبيث كأمها، وأن أيامها باتت معدودة.

لم تتوقف أيقونة الإغراء عن تجسيد أدوارها الصعبة. في عام 1965، قامت ببطولة فيلم «الوديعة» من إخراج حسين حلمي المهندس، مجسدةً شخصية «نهى» الفتاة التي تتعرّض لحادث سير وتُصاب بشلل، ولكنها تقع في حب كاتب شهير، فتروح تحدثه عبر الهاتف خجلاً من مقابلته. وشاركها البطولة كل من كمال الشناوي وعماد حمدي وأمينة رزق.

صارت مريضة الوهم زبونة دائمة في عيادات كبار الأطباء، وطمأنها أكبر اختصاصي أورام وقتها الدكتور عمر عسكر، وشخّص حالتها بالتهاب بسيط. ولكنها لم تقتنع بنتيجة التشخيص، وظنّت أنها مصابة بورم سرطاني في الرحم. لاحقاً، قادتها المصادفة إلى عيادة الدكتور محمد فياض، وبدوره أخبرها أنها لا تعاني أي مرض، فيما حذرها من الإفراط في التدخين، ومن التوتر الزائد.

صار فياض الطبيب المسؤول عن مريضته، وتوثّقت علاقتهما بمرور الوقت، وحين عرض عليها الزواج وضعت بعض الشروط، أهمهما أنها لن تتخلى عن تربية ابنتها «بسنت» ولن تترك التمثيل. وافق فياض وتزوج من النجمة، وخابت توقعات البعض في انتهاء الزيجة بعد أشهر قليلة، لأنها دامت حتى آخر العمر.

كانت أيقونة الإغراء على موعد استثنائي مع الدكتور محمد فياض، أشهر طبيب نساء في مصر والوسط الفني. كانت تتردد على عيادته الفنانات ونجمات السينما، وسبق له الارتباط بالفنانة هاجر حمدي بعد طلاقها من الفنان كمال الشناوي، وانتهى زواجهما بالانفصال ليتزوج من إحدى تلميذاته في كلية الطب بجامعة القاهرة، ثم طلقها ليتزوج عام 1961 من هند رستم، ويعيش معها حتى وفاته عام 2009.

قالت رستم عن لقائها الأول مع الدكتور محمد فياض: «كان في صالون مجموعة من أصدقائنا، وأعجبت به وأعجب بي وتزوجنا بعد شهر. لفت نظري أنه أنيق جداً، وأنا أحبّ الرجل الأنيق وأكره الرجل الفوضوي. وكان آنذاك مدرساً في كلية الطب جامعة القاهرة، وعمر «بسنت» سبع سنوات وعاملها مثل ابنته».

تحوّل زواج «الصالونات» إلى قصة حب دامت حتى نهاية العمر، ونمت خلالها المشاعر بين النجمة والطبيب، ووثّق بينهما رباط لا ينفصم، وذكريات 48 عاماً من المودة والاحترام المتبادل، وحنين جارف لسيدة عاشت عامين فقط بعد رحيل رفيق عمرها، وكانت كل يوم تستيقظ على صورته، وتتحدث إليه لساعات، وتنتظر عبورها برزخ الحياة ولقاء حبيبها الغائب.

ذكرت هند رستم تفاصيل قبولها الزواج من فياض: «كانت المسؤولية الملقاة عليّ كبيرة، وكنت أتمنى أن أجلس في هدوء وبرفقة شخص يتحمل معي هذا العبء. كنت أرغب في بيت وزوج مثل أية امرأة طبيعية، وأدركت أنني لا أستطيع العيش من دون زواج. سافر معي فياض إلى أميركا للخضوع لجراحة في القلب لتغيير خمسة شرايين في مستشفى هيوستون الأميركي، ووقف إلى جانبي في أصعب المواقف التي مررت بها، لذلك أحببته طوال عمري».

تخللت قصة حب «هند وفياض» مواقف طريفة عدة. ذات يوم، ذهبا إلى حفلة، حيث التقى الطبيب إحدى مريضاته وكانت شارفت على الولادة، ففوجئت بآلام الوضع، وكانت أغرب ولادة قام بها الدكتور فياض، عندما ذهب مع مريضته إلى المستشفى، وكانت ترتدي فستان السهرة، وطبيبها يرتدي «بدلة سموكن».

حرصت رستم على أن ترافق زوجها في المؤتمرات الطبية كافة التي يذهب إليها، واستشعرت أن هذا دورها وواجبها، وقدرت طبيعة عمله بين التدريس في الجامعة وعيادته، وتخصصه الذي كان يجعله في حالة طوارئ ليلاً ونهاراً، وارتضت أن تكرس اهتمامها بزوجها وابنتها وأحفادها، واعتبرت ذلك أهم الأدوار في حياتها.

العندليب والجميلة

مثلت هند رستم إلى جانب المطرب فريد الأطرش في عدد من الأفلام، من بينها «أنت حبيبي» و«الهروب من الجنة»، وتباعدت فرصة لقائها مع المطرب عبدالحليم حافظ، وأن يجمعهما فيلم واحد، مثل زميلاتها مريم فخر الدين وشادية وفاتن حمامة وماجدة.

ولكن لاحت هذه الفرصة في عام 1968، عندما عرض عليها العندليب بطولة فيلم «أبي فوق الشجرة»، فشعرت بالسعادة لأنها ستقف إلى جانبه لأول مرة، وتتعاون مع المخرج حسين كمال، وتكمل سلسلة أفلامها مع كاتبها المفضل إحسان عبدالقدوس.

ذكرت الممثلة تفاصيل هذا اللقاء المرتقب قائلةً: «عندما عرض عليَّ فيلم «أبي فوق الشجرة» كنت في منتهى السعادة. قرأت السيناريو فشعرت بأن الدور لا يناسبني، لا سيما بعد فيلمي «شفيقة القبطية». عندما التقيت عبد الحليم مع زوجي، وسألني عن رأيي، أبلغته برفضي، من ثم مثّلت الدور نادية لطفي. آنذاك، غضب مني جمهور العندليب الأسمر، ووجهت إليّ انتقادات لاذعة.

كلمة شرف

رشحت هند رستم لجوائز عدة خلال مشوارها الفني، فنالت شهادة تقدير عن دورها في فيلم «نساء في حياتي» من مهرجان البندقية الدولي عام 1957، كذلك حصلت على جائزة النقاد كأفضل ممثلة عن فيلم «الجبان والحب»، وكرمتها جمعية العالم العربي في باريس، فضلاً عن مهرجان القاهرة الدولي السينمائي 1993.

ألمحت هند رستم إلى أن الجائزة مهمة في حياة الفنان، وتشعره بنوع من التقدير لعطائه، وإلى أن ثمة أدواراً كثيرة تستحق الإشادة، وتعتزّ بها مثل «هنومة» و«شفيقة القبطية» و«الراهبة»، وأن تكريمها في مهرجان القاهرة لفتة لن تنساها، فقد غمرتها السعادة بالحفاوة البالغة من الحضور، وعرض أهم لقطات من أفلامها على الشاشة. وهي أدركت آنذاك أن غيابها 14 سنة عن السينما قبل هذا التكريم، لم يمنع حضورها كفنانة شاركت في أهم أفلام السينما المصرية.

استحقت أيقونة الإغراء جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «الجبان والحب» 1975، عن قصة للكاتب موسى صبري، وشاركت في بطولته مع كل من حسن يوسف (منتج الفيلم ومخرجه) وشمس البارودي وشويكار ومحمد رضا وزوز نبيل، وأشاد النقاد بتجسيدها دور زوجة أستاذ الجامعة، وبراعتها في التعبير عن الانفعالات المتباينة للشخصية، وتموجاتها على ملامح وجهها المعبّر عمّا يعتمل في داخلها من مشاعر.

قدّمت الشقراء الجميلة أهم أدوارها في فيلم «كلمة شرف» عام 1972 للمخرج حسام الدين مصطفى، وشاركت في بطولته مع كل من فريد شوقي وأحمد مظهر ونور الشريف، وظهر النجم رشدي أباظة كضيف شرف.

تتناول الأحداث قصة حب جارفة بين محامٍ وزوجته. يتعرّض الزوج لاتهامات ظالمة، ويُحكم عليه بالسجن، ولكنه يحاول الهروب لرؤية زوجته المريضة.

أدّت هند رستم دور زوجة المحامي فريد شوقي، التي يلازمها الحزن بعد سجنه وتفقد القدرة على الحركة والنطق، واعتمدت الممثلة البارعة على تجسيد الشخصية بالإيماءات، وعلى التعبير بملامح وجهها. وتنتهي الأحداث على نحو مأساوي، إذ تفارق الحياة بين يدي زوجها الذي أخذ على نفسه «كلمة شرف» لمأمور السجن بالعودة إلى السجن.

يّذكر أن فريد شوقي كتب قصة فيلم «كلمة شرف»، وتسبب الأخير في تعديل قانون السجون المصرية، والسماح للسجين بزيارة أهله في حالات استثنائية، وتحت حراسة مشددة. كذلك كان سبق لملك الترسو أن قدّم فيلم «جعلوني مجرماً» 1954، وبعد عرضه صدر قانون إلغاء السابقة الأولى من الصحيفة الجنائية.

صوت القطار

توقّفت دقات الساعة في نهاية السبعينيات، ودارت التساؤلات حول اعتزال هند رستم في أوج مجدها وشهرتها ورصيدها من الأفلام 123 فيلماً، فهل كان التقدم في العمر أحد الأسباب، وهي التي قامت بدور الأم وعمرها 18 سنة، أم أن تغير المناخ السينمائي عجّل في أصعب قرار في حياة راهبة السينما المصرية؟

ذكرت أيقونة الإغراء أن التحوّلات التي طرأت على الوسط السينمائي فرضت عليها اعتزال التمثيل، لا سيما مع ظهور معايير لا تتوافق مع مكانتها، وعدم التزام بعض نجوم الجيل الجديد آنذاك بمواعيد التصوير، وتقدير مكانة زملائهم من الجيل السابق، موضحة أنهم كانوا يغالون في أجورهم أكثر من اهتمامهم بقيمة العمل الفني وجودته.

عاشت هند زوجةً وأمّاً، وتفرغت لحياتها الخاصة، ولكنها لم تنقطع عن متابعة الحياة الفنية والسينما عشقها الأول، فحرصت على حضور أفلام يوسف شاهين وعادل إمام، معتبرةً الأول مفجر طاقتها التمثيلية، والثاني نجماً كوميدياً راسخاً، وله مكانة كبيرة في قلوب الملايين في مصر، بل في العالم العربي كله.

قبل أشهر من رحيلها، أقنعها الإعلامي محمود سعد بالتسجيل الصوتي في برنامجه، وعندما ذهب بالكاميرا إلى منزلها في حي الزمالك الهادئ، فوجئ بأن أيقونة الإغراء تفتح له الباب، وتستقبله بنفسها، وتغير المشهد بظهورها المفاجئ، وبادرته أن ابنتها «بسنت» أقنعتها بأن تطلّ على الملايين من عشاق فنها.

تدفقت الجميلة في حديث الذكريات، وبدء يومها في الخامسة صباحاً، وجلوسها أمام صورة زوجها الدكتور محمد فياض، وتواصلها مع صديقتها ورفيقة مشوارها الفني مديحة يسري، وعشقها الجارف للمسرح، ورفضها لقب «ملكة الإغراء» الذي أطلقه عليها الإعلامي مفيد فوزي، ولكنه نبهها إلى الخروج من أسر هذه الأدوار، وتجسيد ألوان الدراما المحتلفة.

تطرّقت هند إلى حال الأفلام والمسلسلات الدرامية الراهنة، واحتوائها على قدر كبير من مشاهد العنف والألفاظ الخادشة، وتأثيرها السلبي في وعي صغار السن، من ثم محاكاتهم نموذجاً من الأبطال المشوهين، وتساءلت عن دور الرقابة في إجازة هذه الأعمال الهابطة.

أطلّت أيقونة الإغراء من شرفتها، وتناهى صوت القطار الذي تحبه، ويفسح لها مجالاً لتخيل ركابه المسافرين، ولكل منهم حكايته الخاصة، وأعربت عن سر انتقائها مجموعة من الكلاب، ومدى الوفاء لدى هذه الحيوانات، وموضحة أنها لم تجده لدى كثير من البشر.

الوصية الأخيرة

حملت الساعات الأخيرة في حياة هند رستم نذيراً بالغياب، فهي اتصلت بالفنانتين مديحة يسري وإلهام شاهين وببعض أصدقائها المقربين، وعلى نحو مفاجئ تدهورت حالتها الصحية، ونقلت إلى المستشفى لتفارق عالمنا، وتترك حضورها الآسر في قلوب محبيها.

كشفت ابنتها «بسنت» عن وصايا أمها الأخيرة قبل ساعات من رحيلها، فهي طلبت منها أن تواصل رسالتها كأم، وأن تعتني بتربية الكلاب التي عاشت رستم معها، واقتنتها على مدى سنوات طويلة.

ذكرت الابنة أن صحة والدتها تدهورت بشكل مفاجئ، وأن الأطباء طمأنوها، وقرروا مغادرتها المستشفى. ولكن القدر عجل بالنهاية، ورحلت جميلة الجميلات في السينما المصرية، وعاشقة التمثيل، والإنسانة التي قررت اعتزال الفن لأجل زوجها وابنتها وأحفادها.

انطفأت أضواء «البلاتوه» في 8 أغسطس 2011، ورحلت عاشقة التمثيل، لتترك إرثها الفني الزاخر بعطاء متفرد، وودعت عالماً لم تجد فيه معنى للوفاء إلا مع زوجها وابنتها «بسنت» وأحفادها وبعض صديقاتها وأصدقائها المقربين، واعتبرت أن هذه الصفة يفتقدها كثير من البشر.

المشهد الأخير

تحوّل منزل النجمة المعتزلة هند رستم إلى بلاتوه للمشهد الأخير، واستغرق تصويره 32 عاماً، أي بعد آخر أفلامها «حياتي عذاب» عام 1979، ودارت أحداثه الحقيقية بعيداً عن الأضواء، فحفل بموجات من الفرح والحزن والفقد. وارتضت البطلة أن تحتجب عن عشاق فنها، وعاشت ذكريات أيامها الرائعة مع زوجها الدكتور محمد فياض، وشاركتها البطولة ابنتها «بسنت».

وبحجم الغياب كان الحضور، وتتابع عرض أفلامها على الشاشة الصغيرة، لتتعرف الأجيال الجديدة إلى أيقونة سينمائية تعرضت للإقصاء بفعل فاعل، ولم تنصفها معايير السوق السينمائي في نهاية السبعينيات، وبداية ظهور أفلام المقاولات، وعدم اكتراث صانعي السينما بكتابة أدوار تليق بحضورها الطاغي، واقتصار أدوار البطولة على الشباب، فيما اعتبر النقاد أن موهبة هند رستم لا تقل عن كانديس بيرغن وجين فوندا وصوفيا لورين وغيرهن، ممن جسدن أدوار البطولة في سن الأربعين والخمسين. وفي ظل هذا المناخ الطارد للمواهب، قررت ملكة التعبير الاعتزال، رافضةً أن تقوم بأدوار ثانوية لا تضيف شيئاً إلى تاريخها الفني، فآثرت العزلة مع ذكريات رافقتها حتى اللحظة الأخيرة من حياتها، والانطفاء المباغت لأضواء البلاتوه في 8 أغسطس 2011.