لماذا نشعر بالذنب؟

Ad

يعني الذنب أن نشعر بأننا نرتكب الأخطاء. يكون هذا الشعور ضرورياً في الحياة الاجتماعية لكنه قد يصبح مؤلماً وصعباً أو حتى ظالماً، سواء كان وهمياً أو حقيقياً، عندما يرتبط بانتهاك المحرّمات وتغذية الرغبات الدفينة أو التصرف بطريقة شائبة مع شخص معين أو في موقف محدد. يولّد هذا الوضع قلقاً شديداً وميلاً إلى اتهام الذات. كيف يمكن التعامل مع شعور الذنب المعقد الذي يرتبط في حالات كثيرة بوقائع متعددة. يقع هذا الشعور في صلب علاقاتنا مع الآخرين ويشكّل جزءاً لا يتجزأ من إنسانيتنا، مع أنه يسود في ثقافات معينة أكثر من غيرها. كما أنه جزء من نظامنا الاجتماعي وعلاقتنا مع الجماعة. لا يشير الذنب إلى مرض محدد بالضرورة لأنه جزء من طبيعتنا لكنه قد يبالغ أحياناً في غزو يومياتنا فيفسد حياتنا!

في المقابل، لا تشعر بعض الشخصيات بأي ذنب، لا سيما المرضى النفسيون وبعض الأشخاص المنحرفين. في هذه الحالات المتطرفة، يكون ضمير الفرد ميتاً وقد يقوم بتصرفات خطيرة جداً (اعتداء، اغتصاب، تعذيب، قتل) من دون أن يشعر بالذنب أو التعاطف!

شعور صحي أم مرضي؟

يتحدث علماء النفس عن ذنب {إيجابي} حين نشعر بأننا تجاوزنا جزءاً من قيمنا. من المفيد أن ندرك أننا أسأنا التصرف أو جرحنا الآخرين. لا يُعتبر هذا الموقف خاطئاً أو مَرَضياً. يرتبط الذنب في هذه الحالة بالتعاطف، أي القدرة على وضع الذات مكان الآخرين. يمكن أن نطلب السماح حينها أو نصلح الخطأ الذي ارتكبناه. إنها كفاءة بشرية بامتياز! غالباً ما يكون الذنب استباقياً، ما يعني أننا نخطط للقيام بتصرّف شائب أو نشعر بالذنب قبل أن نرتكب الخطأ ونشكّك بسلوكنا المرتقب.

كيف يتطور الشعور بالذنب؟

يعكس الشعور بالذنب عاطفة ترتبط بفئة اجتماعية معيّنة وترتكز على تحمّل مسؤولية حدث عصيب حتى لو لم نتدخل فيه بطريقة مباشرة أو عجزنا عن التأثير عليه. يشعر الطفل مثلاً بالذنب حين يمرض أو يموت أحد والديه أو يتأذى طفل آخر، وسرعان ما يصبح هذا الانزعاج جزءاً من ذكريات العواطف السلبية تجاه ذلك الشخص. من الطبيعي أيضاً أن يشعر الفرد بذنب عابر حين يموت أحد المقربين منه.

عند غياب الأساس الموضوعي للشعور بالذنب، قد يعجز الفرد عن تجاوز مشكلته فيشعر بأنه يتحمّل مسؤولية مباشرة عن ما حصل. في هذه الحالة، تزداد صعوبة إعادة بناء تقدير الذات بسبب شخصيته غير المنطقية. قد يضطرب الشخص بشكل دائم نتيجة ترسّخ ذلك الذنب، فيصبح هذا الشعور اعتيادياً في جميع علاقاته مع الآخرين.

بين الامتنان والذنب

تعمّق سيغموند فرويد في تحديد الرابط بين مفهومَي الامتنان والذنب استناداً إلى تحليل شهير لمريض مهووس عُرف باسم {رجل الجرذان} في عام 1909. تثبت هذه الحالة إلى أي حد يمكن أن يكون العصاب معقداً حين يشعر المريض بأنه مديون لوالديه ومضطر لتسديد ذلك الدين. تحدّث فرويد نفسه عن شعوره بالذنب غداة موت شقيقه الأصغر بعد بضعة أشهر على ولادته. يتّضح هذا الرابط بين الامتنان والذنب في الحضارات اليهودية والمسيحية بينما يطرح شعور العار مشكلة في حضارات أخرى مثل الثقافة الإغريقية والثقافات الشرقية.

شعور الرسوخ في اللاوعي

حلل فرويد مقتطفاً من كتاب Rosmersholm للكاتب النروجي هنريك إبسين وأراد أن يثبت أن تصرفات البطلة {ريبيكا} تشتق من شعورها بالذنب الذي يرتبط بثلاثة أسرار. يتعلق السر الثالث بالحب الذي تحمله لرجلٍ لا تعرف أنه والدها. استعمل فرويد هذه القصة كي يؤكد على ارتباط الذنب اللاواعي بعقدة أوديب ولو بدرجات متفاوتة.

وصف فريدريك نيتشه من جهته حالة نفسية لها طابع إجرامي بسبب الشعور بالذنب. بحسب رأيه، يمكن أن يشعر الناس بالذنب من دون أن يعرفوا السبب أو يمكن أن يرتكبوا جريمة كي يبرروا ذلك الذنب الذي ينتابهم. لا يكون الذنب نتيجة الجريمة بل سبباً لها!

استعمل فرويد هذا النموذج لمناقشة موضوع الذنب اللاواعي المرتبط بالأنا العليا التي تطلق أحكاماً قاسية جداً على الذات. اعتبر فرويد أن المصاب بالعصاب يرتكب خطأً في خياله على الأقل. قد لا يقترف غلطة ملموسة لكن تكون نواياه الشائبة حقيقية، فينعكس الذنب على مستوى عدائيته. يعود فشل التحليل النفسي في بعض الحالات أيضاً إلى ذلك الذنب اللاواعي بحسب رأيه، فيعجز المريض عن تجاوز شكلٍ من {الماسوشية الأخلاقية} التي تدفعه إلى التكفير عن ذنبه اللاواعي بشكل متواصل. يحثّه الذنب على التصرف بطريقة خاطئة وليس العكس. تؤثر هذه العاطفة على حالة الوعي وطليعة الشعور لأن الجهاز اللاواعي يطلق انفعالات كمّية بدل العواطف النوعية بحسب هذه المقاربة النظرية. قرر فرويد ألا يقدم تحليلاً جازماً حول مشكلة العاطفة اللاواعية وترك المسألة مفتوحة للنقاش. لكنه اختار وجهة نظر وصفية مشدداً على وجود ذنب مجهول داخل {الأنا}. يمكن أن يتخذ هذا الذنب اللاواعي أشكالاً متناقضة: رغبة جامحة وطوعية في عيش حياة أفضل من حياة الأب، أو تجارب فاشلة متكررة لتبرير فشل الأب. تثبت الممارسات العيادية أن النجاح قد يشتق من الشعور بالذنب المرتبط بمحاولة التفوق على الأهل.

الذنب والحزن

بين عامَي 1915 و1917، أثبت فرويد في كتابه Mourning and Melancholia (الحداد والحزن) أن الاضطراب العقلي المرتبط بالحزن يتمحور حول الشرخ اللاواعي الذي ينشأ في فترة الحداد. أطلق فرويد اسم {الأنا العليا} على الحالة النفسية التي تتّهم الفرد ونسب إليها دوراً مهماً في الحياة النفسية. تشتق الأنا العليا من مشاعر النرجسية الأولية لكنها تتخذ شكلها الكامل في لحظة تطور عقدة أوديب. يمكن أن تؤدي دوراً مشجّعاً للفرد أيضاً لكنها تجازف في الوقت نفسه بتوجيه انفعالاته العدائية ضده. يتّضح هذا الجانب في حالات العصاب الهوسي والحزن الشديد.

الذنب ومحدودية الحياة

بالنسبة إلى المحلل النفسي جاك لاكان، لا يرتبط الذنب بالضرورة بعقدة أوديب بل برغبات الفرد والمكانة التي تسمح له بتحقيق تلك الرغبات. يشدد لاكان على الرغبات المستحيلة أكثر من الممنوعات لأن مواجهة الممنوعات أسهل من تحديد الأهداف المستحيلة. بحسب رأيه، يعبّر الذنب عن النقص ومحدودية الحياة.

الذنب والتلاعب

يجيد بعض الناس التلاعب بالآخرين عبر الشعور بالذنب بشكل طوعي أو غرائزي. يستطيع هؤلاء الأشخاص أن يؤثروا على الشعور بالذنب الطبيعي لدى الآخرين بطريقة مَرَضية. يكون معظم الناس مستعدين نسبياً للتعامل بهدوء مع هذا النوع من التلاعب بينما يواجه البعض مشاعر ذنب لا يمكن التحكم بها. لا بد من رصد التلاعب والرد عليه والتساؤل حول درجة ترسّخ تلك المشاعر المريعة في داخلنا.

الذنب في الحياة اليومية

يجب أن نبدأ بطرح الأسئلة إذا أصبح الذنب وسيلة للتواصل مع الآخرين. إذا كنت تعود في كل مساء من العمل وتعيد التفكير بمئات المسائل التي كان يمكنك فعلها أو قولها أو بالألم الذي يمكن أن تسببه للآخرين، يشير الوضع إلى وجود خطبٍ ما. يلوّث هذا الشكل من الذنب العلاقات مع الآخرين لأننا قد نخشى التعبير عن أفكارنا خوفاً من جرح مشاعرهم. لا بد من البحث عن سبب المشكلة في هذه الحالة لإيجاد العلاج المناسب. يمكن إجراء بحث عميق عن مرحلة الطفولة وأسلوب التربية. غالباً ما يُستعمل الذنب كوسيلة أساسية للتفاعل أو الضغط أو العقاب أو السيطرة في بعض العائلات المضطربة.

باختصار، يبقى الذنب شعوراً طبيعياً لكنه يطرح مشكلة إذا أصبح دائماً وطاغياً. في هذه الحالة، من الضروري أن نعيد تعلّم العيش ونتجاوز الذنب المَرَضي عن طريق التحليل النفسي. يجب ألا ننسى أن شعور الذنب يرتبط بمفهوم الموت بينما يتّصل الانفتاح الشخصي بالحياة. لا تسمح لهذا الشعور بأن يتابع إفساد حياتك!