نحن نعيش في عصر المعلوماتية والمعرفة، ومن لا يمتلكهما يسكن خارج سياق الحضارة، وزماننا الذي نحيا فيه عبّر عن هذا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا قبل أن يعبّر عنه فكريا.

ودائما كانت ميزة هذا العصر التدفق الهائل للمعلومات والآراء والتحليلات والإعلانات التي أشبه ما تكون بتسونامي معرفي يعطل ملكاتنا الفكرية ويصيبها بالتشويش، فتفضي في ما تفضي إليه، إلى حال من التردد والشلل تجعلنا عاجزين عن اتخاذ قرارات صائبة، وأبعد من ذلك فإن الإيقاع السريع– على سبيل الإحاطة– لنشرات الأخبار والآراء الصادرة عن مؤسسات رسمية وإخبارية تدفع المرء للشعور بأنه ضحية ضرب من ضروب التلاعب الذي يخدم مصالح يحار المرء في معرفة غاياتها الحقيقية.

Ad

للوهلة الأولى جنح بنا التفاؤل إلى القول إن المزيد من الاطلاع المعرفي سيتأتى عنه ارتقاء بالتعليم وثراء للمصادر وانفتاح على الحكمة الإنسانية، ولكن تلوح الأمور في سيرها إلى اتخاذ وجهة معاكسة، فهذا السيل المعرفي أصاب قدرا كبيرا من الناس بالإحباط وألحق التشويش والتشتيت بالأذهان.

وربما ضاعف من هذا المأزق المعرفي ندرة وجود اختصاصيين نابهين يتولون تنقية هذا السيل المعرفي وتلخيصه وشرحه، فالضيوف الدائمون لوسائل الإعلام يكررون ما سبق أن كررته الصحف والقنوات الفضائية، وحين يلتقي اثنان متعارضان فإنهما سرعان ما يعودان إلى ممارسة النقاش وفق طقوس التاريخ القديم من خلال الصراخ والصوت العالي، ففي عصور ما قبل الميلاد كانت المجتمعات تحسم النزاعات بين أفرادها من خلال تغليب من بمقدوره النقاش بصوت عال!

وهذا الخلل هو في وجه من وجوهه علامة على تراجعنا الحضاري، وكبت للسلوك المدني الذي تشترطه المعرفة وطرق حيازتها، وهذا ما ينمّ عنه، على الأقل، تحول نقاشاتنا الجماعية إلى غوغائية لا يتأتى عنها سوى بروز الديماغوجيين وشذاذ الآفاق المشغولين دوما بمخاطبة الغرائز والعواطف وتعميم تفاهاتهم.

ولئن وجدت في المشهد الذي نعيشه انتقادات صافية لهؤلاء وأشباههم فإن الصورة تزداد قتامة حين نقرن ذلك بحجم هائل من الكذب والنفاق ترزح حياتنا اليومية تحته، واتساع الهوة بين ما يبوح به عقلنا وبين تلفيق الواقع في أشد صوره بؤساً.