في الثامن والعشرين من سبتمبر مرَّت الذكرى الـ 46 لوفاة الزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر، والذي خصص الصديق د. نجم عبدالكريم مقالته الأربعاء الماضي في "الجريدة" لعرض قصيدته المعبِّرة التي تفتقت عنها قريحته ليلة وفاة عبدالناصر عام 1970، معبراً فيها عن حالة عصره.

حينذاك سالت شوارع الوطن العربي، على امتداد رقعته من المحيط إلى الخليج، أنهاراً من الدمع وبراكين من الحزن، لفقد قائد تجسَّدت بشخصه وكاريزمته الطاغية آمال الشعوب العربية بالوحدة والحرية والانعتاق من التبعية والاستعمار.

Ad

قائد اكتست سماء العرب خلال سبعة عشر عاماً بأحلامه، بنهوض العرب ووحدتهم، علَّهم يطاولون مراتب الأمم الأخرى بالتحضر والإنجاز والتقدم، لكنها كانت أحلاماً وآمالاً عاطفية، لم تبنَ على أسس متينة، وحرقت المراحل، متناسية بناء الإنسان وحقوقه الأساسية في التعليم والديمقراطية والعيش الكريم، وتاهت بدهاليز التنظير وتفخيم الشعارات، التي لم تزد العرب إلا تخلفاً وتراجعاً، وأجهضتها هزيمة 1967، التي عادت بالعرب إلى ما دون المربع الأول لانطلاق ثورة 23 يوليو 1952، التي أطاحت النظام الملكي في مصر، وانطبق عليه القول "رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه".

الآن، ماذا عسانا أن نقول بعد ما يقرب من نصف قرن على غياب عبدالناصر وحكمه لأكبر وأعرق دولة عربية؟ وبعد أن تغيَّرت ملامح البناء السياسي لغالبية الدول العربية التي لحقت بركب الثورة الناصرية، وغابت معها ملكيات، وحلَّت محلها جمهوريات انتهجت أشكالاً متباينة من أنظمة الحكم الجمهوري، لكنها اشتركت في سمات واحدة من التراجع الاقتصادي والسياسي والديمقراطي وسيادة الأنظمة الشمولية والفردية والأحزاب الواحدة الحاكمة، وتشظَّت فيها الأمة العربية التي كان عبدالناصر يحلم بتوحيدها، لكنه قدَّم حياته قرباناً على منصة أعنف مذابحها في "أيلول الأسود" عام 1970، والتي دارت رحاها العدمية بين إخوة الدم الأردنيين والفلسطينيين؟!

إن مراجعةً واعية وعقلانية للمشهد المأساوي الذي انتهت إليه أحوال أمة العرب عبر خمسين عاماً، وصولاً إلى مآسي ما أسموه "الربيع العربي"، ستؤكد، دون شك، أن أوضاع الجمهوريات العربية أسوأ حالاً، مقارنة بأوضاع الملكيات، كما أن أداء حكام وحكومات تلك الجمهوريات وأحوال شعوبها أسوأ، دون منازع، من الملكيات العربية!

وحتماً ستنتهي أحكام المراجعات العادلة إلى إدراك الحجم المذهل الذي أهدرته الأنظمة الشمولية في الجمهوريات العربية من ثروات ومقدَّرات شعوبها، بعد أن قامت على أنقاض الملكيات في بلدانها، وشيّدت لها ولأتباعها عروشاً ملكية جديدة (مشوّهة) بواجهات جمهورية، وجرَّتها إلى مدارك التخلف والتراجع في جميع الميادين، قياساً بالأمم الأخرى، وقبع العرب من خلال أنظمتها في ذيل قوائم دول العالم، إن لم يكونوا خارجها!

في ذكرى رحيل عبدالناصر لا تستطيع ذاكرة التاريخ إلا أن تنزِّه صفحته وتنصف نقاءه الذاتي الوطني، رغم المساوئ الكثيرة التي شابت أداءه وأداء البطانة المحيطة به.

صفحات التاريخ لم ولن تتمكن في ظني (مع الأسف) من أن تثبت نجاح الناصرية، أيديولوجياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً، بعد سلسلة متواصلة من الهزائم والتراجعات العربية.

أقول ذلك وأنا واحد من جيل معاصري عبدالناصر ومعتنقي أحلامه ومشروعه العروبي، الذين أصابتهم الهستيريا والإحساس بالضياع العربي وخيبة الأمل ليلة وفاته ويوم دفنه.

رحم الله جمال عبدالناصر، الذي ارتبطت حقبته بجماهيريته الكاسحة وحسب، والتي لم يملأ فراغها جميع من جاءوا بعده، حيث فشلوا في قيادة العرب إلى نهوض حقيقي يستفيد من أخطاء الناصرية، ويبني على صوابية الأنظمة الأخرى التي أثبت الزمن أنها كانت أرحم بشعوبها ممن ادعى اقتفاءه أثر عبدالناصر ومرحلته وطروحاته الصاخبة التي لن تنسى.