نناقش في هذا المقال قضية إيمانية بالغة الأهمية، من تلك التي أثارها الداعية التركي فتح الله غولن في كتابه الذي عرضنا جوانب منه، وهو كتاب "أسئلة العصر المحيرة". تحدث الداعية إلى أتباعه في قضايا ومسائل عديدة، كانت إحداها مدى امتلاك الإنسان المسلم حرية الإرادة في عمل الخير أو الشر، وبالتالي استحقاقه للثواب أو العقاب.

فهل الإنسان حُرٌّ تماماً في اختيار ما يفعل؟ وهل يملك أن يمارس الفعل أو يتجنبه؟ أم أنه مُسخَّر مسيَّر، ومجرد أداة لتنفيذ المشيئة المقدَّرة التي يؤمن كل مسلم أنها رسمت لكل صغيرة وكبيرة، في الحياة والكون؟ وهل إرادة المشيئة منفردة مطلقة في كل ما نرى من حوادث وأحداث وتطورات، أم أن هناك إرادة بشرية كذلك، حرة في اختيار ما ترى وتعمل، وتتحمل بسبب هذه الحرية الكاملة العقاب والثواب؟

Ad

ولماذا، كما تساءل جمهور الداعية "غولن" ويتساءل كثير من عامة الجمهور، يكون المسلم من أهل الجنة أو من الهاوين في السعير، إن لم يكن قد قام بما قام به من خير أو شر، بملء إرادته وكامل حريته واختياره؟

الجبر... والاختيار

يثير الجمهور مع الداعية "غولن" قضية فلسفية إسلامية برزت منذ القرن الأول الهجري، وانقسمت حولها الآراء، وافترقت بسببها الجماعات وأصحاب المذاهب والفرق، وهي مسألة "الجبر والاختيار"، و"هل الإنسان مسير أم مخير؟"، وهل الإنسان يهتدي بإرادته وعقله واختياره، أم كما ينص ظاهر الآية الكريمة في سورة البقرة: "وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ"؟

ويحاول الداعية غولن أن يجيب عن هذا السؤال الشائك بحذر شديد، وبما يقنع السائل، دون أن يخرج في الوقت نفسه عن إطار الدين، فيقول مفسراً كيف يهدي الله "من يشاء" ولماذا يختار هؤلاء للإيمان والهداية، ويشرح الآية: "نقول أولاً إن الله تعالى إن انحاز إلى قسم من عباده فليس من حق أحد أن يقول له: لماذا فعلت هذا؟، لأن الله تعالى هو مالك الملك، وهو المتصرف فينا وفي كل شيء، ولا يملك أحد أي حق لأي ادعاء أو أي اعتراض عليه، فهو مالك كل شيء والمتصرف في كل شيء حسبما يشاء، لذا فعندما يتم توجيه سؤال متعلق به سبحانه، فيجب أن يكون السؤال في غاية الأدب وفي غاية الاحترام، فالكل في قبضة تصرفه، وهو مالك ومليك كل الملك، وليس من حق أحد توجيه أي سؤال بهذا الأسلوب، لأنه يكون منافياً للأدب الواجب تجاهه تعالى. ولكن يمكن أن يقال: إن كان الله تعالى يوجهني إلى الهداية أو إلى الضلالة، إذن فعلى أي أساس ووفق أي مبدأ أو حكمة يؤاخذني؟ ذلك لأنه هو الحاكم المطلق، فما حكمته يا ترى في هذا الأمر؟".

الدماغ... والمعدة

ترى من يخلق الهداية والضلال في حياتنا؟ يجيب "غولن" بأن إرادة الخالق تسيّر كل شيء، خالق الخلق ومسير الأكوان: "أجل! ان الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فقد ذكر هذا الأمر في مواضع مختلفة وبشكل متكرر في القرآن الكريم، فالمشيئة الإلهية هي الأساس، والذي يجب الانتباه إليه في هذا الخصوص هو أن الهداية والضلالة من خلق الله تعالى، ولكن السبب يعود إلى مباشرة العبد، غير أن مباشرة العبد ضعيفة إلى درجة يمكن إهمالها، وإرجاع كل شيء إلى الله تعالى خالق جميع الأكوان". (أسئلة العصر المحيرة، ص138)

ويحاول "غولن" أن يشرح هذه المسألة المتداخلة الشائكة بمثال عن الطعام والشراب! فالإنسان يستعين بقوة يديه ودراية دماغه لوضع اللقمة في فمه، ولكنه ما إن يفعل ذلك حتى تنشط الغدد اللعابية ويبدأ تليين الطعام، ويتفاهم الدماغ مع المعدة، مطالباً إياها بفرز العصارات اللازمة، فتقوم المعدة بوظائفها ثم تنبه الأمعاء، ولا إرادة أو دور للإنسان في عمل المعدة والأمعاء والكبد والكلى، وهكذا فإن دخول لقمة واحدة يستلزم حدوث خطوات أخرى دون تدخل الإنسان، فهناك يد غيبية تقوم بترتيب وأداء كل الخطوات بإتقان، ولا دخل للإنسان في عملية الهضم".

قدرية مطلقة

وينتقل إلى موضوع "الهداية"، فيقول إن "إرادة الإنسان في الحصول عليها والوصول إليها إرادة جزئية جداً، تتألف من إظهار اللياقة واستحقاق هذه الهداية، وكم يتمنى الواحد منا أن يصلي صلاة خاشعة، بحيث ينسى المصلي نفسه وينقطع عن العالم... ولا يوفق، إلا بنسبة واحد في الألف"، وكما يقول "التفتازاني" في هذه المسألة، إن "الإيمان شمعة يوقدها الله تعالى في روح الإنسان الذي يستعمل إرادته الجزئية في الحصول عليه" أي أنك، كما يوضح "غولن"، لا تملك في مثل هذا الموضوع الخطير سوى استعمال إرادتك الجزئية، فكأنك تقوم فقط بلمس زر، فإذا بحياتك كلها يغمرها النور، ويشبه هذا قيامك بالضغط على زر الكهرباء لثريا تحوي آلاف المصابيح الكهربائية".

ويختم "غولن" تفسير هذه النقطة بالقول: "أجل! نحن مضطرون إلى فهم هذه المسألة على مثال تناول لقمة الطعام "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" (الإنسان: 30) و"يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ" (المدثر: 31) إذن فلا توجد إرادة تعلو إرادته، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

والخلاصة أن معظم الأمر يعود إليه تعالى، ونصيبنا من الأمر شيء ضئيل إلى درجة أنه يمكن إهماله، لذا فإن الادعاء بأن الأمر راجع إلينا يعد جرأة غير مقبولة (ص141)، فالإرادة الإلهية منفردة مطلقة في تفسير الداعية "غولن".

هل هذه قدرية مطلقة، وتسليم كامل للمشيئة الإلهية، وإقرار تام بأن الإنسان مسير لا مخير، أم لايزال في تحليل وتفسير الداعية "غولن" مجال لإقحام الإرادة الإنسانية والمسؤولية البشرية عن فعل الخير وارتكاب المعاصي؟ فحتى في المثال الذي أورده عن الطعام والفم والمعدة ويد الإنسان وجوفه، أليست كلها أجزاء من كيان الإنسان، وتخضع لنفس التفسير القدري الذي يورده غولن؟

وجه أتباع "غولن" إليه سؤالاً آخر حول المسؤولية الأخلاقية والإرادية للإنسان، وعلاقة المشيئة الإلهية، فالقرآن الكريم، كما استفسروا من الداعية، يعطي الله وحده الإرادة الكلية المطلقة، ومعلوم كما يفسر "غولن،" أن للإنسان إرادة جزئية، ولكن من المسؤول عن عمل الإنسان في ظل الإرادة الكلية للخالق؟ "فهل يتبع الإنسان حين يقترف الإثم إرادته الجزئية هذه، أم الإرادة الكلية لله تعالى"؟ (ص 45).

الخالق أوجد الإنسان... وعمله

ويصر الداعية على وجود إرادة للإنسان، "سواء أطلقنا عليها تعبير الإرادة الجزئية، أو المشيئة الإنسانية، أو الكسب الإنساني" والكسب هنا في المعنى القرآني أي ما فعل الإنسان وما تحمل، (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة 286.

ولكن "غولن" يعجز عن توضيح الخط الفاصل بين الإرادتين، ويقول: "الله خالق كل ما يحدث في الكون، والآية (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات: 96، أي "خلقكم وخلق الأعمال الصادرة منكم" (ص45). ويحاول "غولن" مرة أخرى أن يوضح دور الإنسان ومدى مسؤوليته عن عمله بموجب هذه الآيات، فليجأ إلى أمثلة تبقى دلالتها غامضة وقابلة للتفسير بعكس ما يستدل عليه، يقول: "مثلاً إن قمت بعمل سيارة أو ببناء بيت، فالله هو خالق هذه الأعمال، لأنك أنت وأفعالك تعودان لله تعالى، ولكن هناك أشياء تعود إليك في هذه الأفعال وهي (كسبك) و(مباشرتك)، وهذا الكسب شرط عادي وسبب بسيط، ويشبه تماماً قيام شبكة كهربائية ضخمة بإنارة منطقة واسعة جداً بمجرد قيامك بالضغط على زر واحد، فكما لا يمكن هنا القول بأنك لم تفعل شيئاً ولم يكن لك أي دخل في الموضوع فكذلك لا يمكن القول بأن هذه الإضاءة والإنارة تعود تماماً إليك. العمل يعود تماماً الى الله تعالى، ولكن الله تعالى عندما خلق هذه الأعمال قبِل تدخلك الجزئي هذا، وعده شرطاً عادياً وبنى ما سيفعله على هذا التدخل الجزئي.

مثلاً، إن الله تعالى هو الذي أسس آلية الكهرباء الموجودة في هذا الجامع وجعلها صالحة للعمل وللشغل، وهو الذي حقق عملية التنوير، لأن إحداث النور من تيار الإلكترونات وتنوير الجامع يعد فعلاً، وهذا الفعل يعود إلى "نور النور" و"منور النور" و"مصور النور" أي إلى الله تعالى. ولكن هناك مباشرة عائدة إليك في موضوع تنوير هذا الجامع، وهي القيام بالضغط على زر فقط في هذه الآلية التي وضعها الله تعالى، أي أن عملية وآلية ووظيفة التنوير التي تتجاوز قدرتك وطاقتك وإرادتك تعود إلى الله تعالى".

عمل الإنسان هو الضغط على الزر

المباشرة الضئيلة العائدة للإنسان في العمل هي "الكسب"، و"الإرادة الجزئية"، كالضغط على الزر مثلاً، أو وضع الطعام في الفم، وتبقى الإرادة الكلية الشاملة للخالق، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: 3)، ودور الخالق في الواقع كلي وشامل، لا تقترب من إرادته إرادة مخلوق، كائناً من كان، ولكنه سبحانه، كما يبين "غولن"، "من أجل التكليف والامتحان ومن أجل أسرار وحكم أخرى، قبِل مباشرة البشر وكسبهم". وهكذا يضيّق "غولن" هامش الإرادة الإنسانية إلى أقصى حد، في تفسيره ويضرب لأتباعه مثلاً، فيقول: "لنفرض أن أحد الصبيان أراد منك أن تأخذه في حضنك وتذهب به إلى المكان الفلاني، وقمت بتحقيق طلبه، ولكن أصابه البرد هناك ومرض فهل يستطيع أن يلومك ويقول لك: لماذا أحضرتني إلى هذا المكان؟ لا يستطيع طبعاً لأنه هو الذي طلب ذلك، بل تستطيع أن تزجره إن قال هذا، فهل تستطيع إنكار إرادة الصبي هنا؟ لا نستطيع لأنه هو صاحب الطلب، ولكنك كنت أنت الذي ذهبت به إلى ذلك المكان، أما المرض فلم يكن من عمل الصبي، وإنما صدر منه الطلب فقط، وهنا يجب التمييز بين من أعطى المرض ومن جلب الصبي إلى هناك، وبين من طلب المجيء، نحن ننظر بهذا المعنى وبهذا المنظار إلى القدر وإلى الإرادة الإنسانية، والله تعالى المقدر لكل شيء هو الأعلم بالصواب".

غير أن "غولن" لا يغوص في الشرح أكثر من هذا، وما إذا كان "مقدراً" لهذا الشخص، حمل هذا الصبي ونقله إلى ذلك المكان، وفيما إذا كان "مكتوباً" على الصبي أن يطلب من الشخص نقله إلى مكان يتعرض فيه للمرض! فلابد إذن من تفسير أدق وأشمل للعلاقة بين الإرادتين.