طبيعي أن يعتقد لوكريتيوس، الذي ولد نحو قرن قبل المسيح، أن الديدانَ إنما تنشأ تلقائياً من التربة الرطبة، أن الزلازلَ تبعث بها رياحٌ حبيسةٌ في كهوف تحت الأرض، أن الشمس تدور حول الأرض. ولكن، في صميم قصيدة "في طبيعة الأشياء" ثمة فهم حديث لافت للنظر للعالم. كلُّ صفحة من نصه تعكس رؤيةً علمية أساسية- رؤية للذرات تتحرك بشكل عشوائي في الكون اللانهائي- مشبعةً بإحساس الشاعر المندهش. اندهاش لا يعتمد مطلقاً على إيمان بالحياة الآخرة. لوكريتيوس يرى أننا وُجدنا من المادة التي وجدت منها النجومُ والمحيطاتُ وكلُّ شيء آخر. وجعل هذه المعرفةَ أساساً للطريقة التي يظن أننا يجب أن نعيش وفقها. لا معيشة خوف دائم من القدر، بل معيشة سعي وراء المسرات، وتجنب دائم للألم.

قبل أكثر من قرون ستة، بعد أن طوى النسيان قصيدة "في طبيعة الأشياء"، حدث أن اكتشف شابٌ طُلَعةٌ مخطوطةً لها في رفٍّ منسي. في ذلك الوقت كانت أفكار لوكريتيوس غيرَ متداولة بالمرة ولقرون. في الإمبراطورية الرومانية، كان معدل الإلمام بالقراءة والكتابة متواضعاً، وبعد احتلال روما، في 410 م، بدأت مرحلة الانحسار، والابتعاد عن القراءة والكتابة جملة. وفيما انهارت الامبراطورية وأصبحت المسيحيةُ مسيطرة، وفيما اضمحلت المدن، وانخفضت التجارة، والجماهير تتطلع للأفق متوقعة جيوشَ البربرية، تهاوى نظام التعليم القديم. أُغلقت المدارس ومعاهد التعليم والمكتبات، وتوارى أساتذةُ الخطابة دون عمل، وكانت هناك دائما أمورٌ أدعى للقلق من مصير الكِتاب واستنساخه. وكما هو متوقع أصبحت قصيدة لوكريتيوس عرضةً للهجوم، للسخرية والحرق، شأنها شأن شاعرها لوكريتيوس الذي أصبح منسياً في نهاية المطاف.

Ad

ثم جاء اللاهوت المسيحي فقدم تفسيرَه لفوضى العصور المظلمة: فالبشرُ بحكم طبيعتهم فاسدون، ورثةُ خطيئة آدم وحواء، ويستحقون عن جدارة كلَّ الكوارث البائسة التي حلت بهم. يرعى الله البشر، تماما كما يرعى الأب أولاده الضالين، ودليلُ الرعاية كامنٌ في الغضب الإلهي. ومن خلال الألم والعقاب وحدهما سيتسنى لعددٍ صغير من الناجين أن يجدَ طريقه إلى الباب الضيق للخلاص. وكراهيةُ البحث عن المسرات، ورؤيةُ الغضب الإلهي، وهاجس الموت والتفكر في الآخرة: هذه كانت التأبينَ الجنائزي لكل ما يمثله لوكريتيوس..

"الأشياء في الكون، يرى لوكريتيوس، هي عدد لا حصر له من الذرات تتحرك عشوائياً عبر الفضاء، مثل توزّعِ الغبار في شعاع الشمس، تصطدم ببعض، تترابط معاً، وتشكل هياكلَ معقدة، ثم تنفرط بعيداً عن بعضها البعض مرة أخرى، في عملية يتواصل فيها الخلقُ والتدميرُ دون نهاية. نحن خرجنا من البذور السماوية ذاتها، جميعاً من نفس الأب، ومن أرضنا الأم العزيزة التي تلقت منه قطراتٍ سائلةً من الماء، وقد تطور كلُّ شيء، بما في ذلك الأنواع التي ننتمي إليها، على مساحات شاسعة من الزمن. تطورٌ عشوائي، وإن كان في حالة الكائنات الحية ينطوي على مبدأ الانتقاء الطبيعي.. نوعنا البشري نحن، سوف يختفي في يوم من الأيام. لا شيء. الذرات وحدها هي الخالدة".

في الكون المتشكل بدقة، يرى لوكريتيوس، سيكون من السخف أن نعتقد أن الأرض وسكانها يحتلون مكاناً مركزياً، أو أن العالمَ إنما بُني لاستيعاب البشر لهذا الغرض: "الطفل، مثل بحّار تأخذه الأمواجُ العاتية، يُلقى عارياً على الأرض، وبصمت". لا يوجد أي سبب لفصل البشر عن الحيوان، لا أمل من رشوة أو استرضاء الآلهة، لا مكان للتعصب الديني، لا ضرورة للدعوة إلى التقشف وإنكار الذات، لا مبرر للحلمِ بقوة لا محدودة أو بأمن كامل، ما من أساس منطقي لتعظيم الذات، وما من وجود لإمكانية الانتصار على الطبيعة. بدلا من ذلك، يقول لوكريتيوس، ينبغي على البشر قهرَ مخاوفهم، وقبولَ حقيقة أنهم أنفسهم عابرون، مع جميع الأشياء التي يواجهونها، وما عليهم إلا احتضان الجمال والمتعة في العالم.

"أن تقضي زمنَ وجودك في قبضة القلق إزاء الموت لهو محض حماقة". كتب لوكريتيوس.