الإجازات بفراغها الكبير كانت فرصة مناسبة لزيارة الأقارب والأحباب ومن ثم ملاحظة التغيرات التي طرأت على أسماء الشوارع والمرافق والمدارس الحكومية، حيث بدا لي جلياً أن الجهات أو اللجان المختصة بتسمية الشوارع والمرافق العامة فاهمة التنمية والتطوير "غلط"، فتغيير اسم الشارع أو المستوصف أو المدرسة لا يعد تقدماً ولا تجميلاً، كأن الكويت بفضلهم تخلع جلدها القديم لترتدي أسوأ منه، فبعد أن ارتبطت الشوارع والمرافق في أذهاننا وذاكرتنا بأسماء تاريخية شهيرة أو على الأقل نعرف من يكونون وماذا قدموا، صارت الشوارع ومرافقها تعرف بأسماء هي أقرب إلى الألغاز و"الزوارات" العائلية والدواوين منها إلى الرسمية والجدية، تطلع من بيت أبيك لتمر في شارع جدك الذي يطل عليه مستوصف خالتك، ثم تنعطف لشارع ابن خالة عم جدتك الذي به مدرسة ابن عم أبيك وهكذا إلى أن تصل إلى هدفك، ثم تعود إلى بيتكم مروراً بذات الأسماء لتعزف السلم الموسيقي العائلي بالمقلوب هذه المرة.

لا بد أن نفرق هنا قليلاً بين المرافق كالمستوصفات والمدارس وبين الشوارع، فصحيح أن من تبرعوا لبناء أو ترميم المراكز الصحية والمدارس والمكتبات ذوو كرم وعطاء يُشكَرون عليه، إلا أنني لم أستسغ الفكرة كثيراً، فالدولة التي تتبرع وتُقرض أغلب شعوب الكرة الأرضية وترسي المناقصات وتدفع الغرامات بالمليارات وترسل نصف شعبها سنوياً للعلاج بالخارج هي بالتأكيد قادرة على بناء وترميم بعض المرافق والمستوصفات هنا وهناك، وهذا ليس بجديد فهو ما كان جارياً فعلاً منذ الاستقلال ونشأة الدولة الحديثة إلى أن بدأت هذه الموجة مؤخراً بتراخي الدولة وتنازلها عن قيامها بواجباتها، فكان يجب عليها ألا تسمح، ولو كان بحسن نية ومن باب فعل الخير أو المشاركة المجتمعية، بترسيخ هذه التفرقة الاجتماعية وتأطيرها بشكل رسمي، وجعلها عرضة لأن تكون وسيلة للانتفاع الانتخابي والسياسي، فليس هناك من داعٍ لجعل بعض أبناء الوطن أصحاب فضل على نظرائهم في المواطنة بسبب تكاسل الدولة عن قيامها بالتزاماتها وواجباتها الأساسية، ولا يجب أن يشعر المواطن العادي بمس كرامته أو بالامتنان أو أنه مدين بفضل يطوق عنقه لأناس لا يعرفهم بتاتاً ولسبب لا يد له فيه.

Ad

أما الشوارع فهذه قصة كبيرة أخرى، فرغم رضانا بالهم إلا أن الهم لم يرض بنا، فإن رضينا بأسماء المراد تخليدهم فلنعرف أسباب الاختيار على الأقل، فأنا أكاد أجزم أنه لا أحد يفهم معايير إطلاق الأسماء على الشوارع وضوابطها، فتجد أن الشهداء الأبرار الذين بذلوا أرواحهم وأعز ما يملكون لم يُكتب باسم أحدهم ولو مطبة، بينما كثير ممن سميت بأسمائهم الشوارع لم يقدموا شيئاً للبلد أكثر من أنهم عاشوا وماتوا فيه، وبعضهم أفضل من بعض بزياراتهم الدورية للدواوين الثقيلة أو لعلاقتهم الجيدة مع الشيوخ والمسؤولين، وبعد أن يموت أحدهم- يرحمه الله- قالوا لك كان من رجالات الكويت و"نط" لك نائب يطالب بتسمية شارع باسم المرحوم ليس حباً فيه وبإنجازاته الخالدة التي لم يسمع عنها أحد إلا بعد رحيله، ولكنه يريد بدوره نصيبه من تركة أصوات المرحوم، فينضم- رحمه الله- إلى قافلة "مجمع الخالدين" المنشورة في شوارع البلاد طولاً وعرضاً، مما يجعلك تتساءل بصدق وبراءة إذا كان كل هؤلاء العظماء الأفذاذ كانوا يعيشون بيننا فلماذا نحن بهذا الحال؟ ومن المفارقات أنه مطلوب منك أحياناً الالتزام بقوانين المرور وربط حزام الأمان وعدم استخدام الهاتف وتسكير "غولة" دشداشتك في شوارع مسماة بأسماء أشخاص سبب شهرتهم ومكانتهم التي أهلتهم للتخليد الرسمي هي قدرتهم الخارقة على مخالفة كل القوانين الوضعية والإلهية والفيزيائية وحتى قوانين أندية القمار ومسابقات مصارعة الديكة!