لخمسة أعوام، لا، بل لنحو ثمانية أعوام، اتبعت الولايات المتحدة، في عهد هذه الإدارة البائسة التي على رأسها باراك أوباما، سياسةً "تراجعية" كانت نتيجتها كل هذه المآسي التي باتت تعانيها هذه المنطقة، وبخاصة سورية التي تحولت إلى كومة من الحجارة، وإلى معسكر كبير للحرس الثوري الإيراني ولعشرات التنظيمات المذهبية التي تم استيرادها حتى من أفغانستان وباكستان، وإلى قاعدة جوية لسلاح الجو الروسي. وأيضاً العراق الذي لا يُنكِرُ أنه بات يرزح تحت احتلال إيراني مباشر إلا مصابٌ بالحول السياسي، أو تابعٌ لقاسم سليماني وهادي العامري أو "جيش التحرير الشيعي" الذي أعلنت طهران عنه في الأيام القليلة الأخيرة.

ربما بالإمكان فهْم بعض المبررات، التي اختبأت وراءها إدارة الرئيس باراك أوباما ممثلة بوزير خارجيته جون كيري للتعامل مع "الأزمة السورية" بطريقة جعلت روسيا الاتحادية تصبح الرقم الرئيسي في المعادلة الشرق أوسطية، لكن ما لا يمكن فهمه، على الإطلاق، هو أن تُفرِّط واشنطن في عهد هذه الإدارة التي اقترب موعد رحيلها، غير مأسوف عليها، بتركيا العضو المؤسس في حلف شمالي الأطلسي، والتي يعتبر جيشها ثاني أكبر جيش في هذا الحلف، وتدفعها دفعاً للارتماء في أحضان فلاديمير بوتين الذي بقي يتضور جوعاً منذ وصوله إلى الحكم لالتهام هذه المنطقة وتحويلها إلى قاعدة عسكرية كبيرة للجيوش الروسية وإلى مجالٍ حيوي لدولته التي بدأت بملْء الفراغ الذي تسبب فيه الأميركيون في هذه المنطقة الاستراتيجية.

Ad

هل يُعقل أن تستبدل الولايات المتحدة التي أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الدولة الأعظم في الكرة الأرضية، دولةً حليفة في قوة ومكانة وموقع تركيا، بعلاقات ضبابية غير واضحة وغير مفهومة مع روسيا الاتحادية التي يسعى رئيسها فلاديمير بوتين إلى استعادة أمجاد القياصرة ومجد الإمبراطورية الشيوعية، والتي أصبحت في حقيقة الأمر هي صاحبة الحول والطول وصاحبة القرار الأول والأخير في بعض دول هذه المنطقة، وفي مقدمتها سورية؟!

لكن، وبعد كل هذه السنوات العجاف، ومع اقتراب رحيل باراك أوباما "بخيره وشره"، يبدو أن أصحاب القرار الفعلي في الولايات المتحدة من خارج البيت الأبيض قد أدركوا أن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط ذاهبة إلى الجحيم، وأن الروس سيزداد تغلغلهم وتجذرهم في هذه المنطقة، إنْ هُمْ لم يبادروا إلى تدارك الأمور، وإلى استعادة تركيا التي دفعها الأوروبيون بإغلاق كل الأبواب في وجهها إلى التوجه نحو موسكو وإلى التحالف على مضض مع الرئيس فلاديمير بوتين الذي لا يتورع عن إعلان أطماعه القيصرية في منطقة لا تزال تعتبر من أهم مناطق العالم، إنْ بسبب الموقع الجغرافي، وإن بسبب مصادر الطاقة وفي مقدمتها النفط.

لقد جاء جو بايدن ركضاً إلى تركيا لتدارك ما يمكن تداركه، في اللحظات الأخيرة، مما جعل بعض ذوي الاهتمام ومعهم بعض المراقبين يتساءلون عما إذا كانت هذه الزيارة، ومعها زيارة جون كيري الأخيرة إلى جدة، "صحوة" أميركية تأخرت لنحو ثمانية أعوام... أم أنَّ هذا كله هو من قبيل ما يسمى "وهم الحركة"، وأنَّ إدارة أوباما قد فرَّطت بأهم حلفاء الولايات المتحدة، لا في الشرق الأوسط فقط، ولكن في العالم بأسره؟!

في كل الأحوال، علينا الانتظار لنرى ما إذا كانت زيارة هذا المسؤول الأميركي بداية لتصحيح العلاقات الأميركية – التركية، أم أنه قد جاء متأخراً كثيراً وأن كل شيء قد انتهى، وأنه لا إمكانية لعودة الأمور إلى ما كانت عليه!