السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تستعد الحكومة بكل حماس لتنفيذها بناء على إملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، هي مجرد تطبيق لنماذج اقتصادية مُعلّبة ومعروفة نتائجها سلفاً، فالسيناريو هنا مُكرر لا إبداع فيه، إذ سبق أن نفذته دول كثيرة أُغرِقت في الدين العام وباتت، بعد ذلك، تُجيّر كل ما تملك من موارد مالية لخدمته، ومن ضمن هذه الدول اليونان وإسبانيا وأيرلندا وإيطاليا، فماذا جنت هذه الدول في النهاية غير احتكار الثروة من قِبل القِلة، والإفلاس المالي، والإفقار، والبطالة، واتساع الفوارق الطبقية (غِنى فاحش وفقر مُدقع)، وعدم الاستقرار الاجتماعي-السياسي؟

هل لدينا بديل آخر يعالج العجز المالي الفعلي أو المتوقع، ويحافظ على ديمومة الثروة والرفاهية الاجتماعية؟ الجواب بالإيجاب، إذ إنه بإمكاننا، متى ما توافرت الإرادة السياسية، ابتكار نموذج تنموي إنساني مستقل يأخذ في عين الاعتبار طبيعة اقتصادنا، ويتناسب مع ظروفنا الاجتماعية والسياسية، ويحقق العدالة الاجتماعية، ويحافظ على الاستقرار الاجتماعي-السياسي.

Ad

وبطبيعة الحال فإن النموذج الاقتصادي الإنساني والعادل له متطلبات أولية ضرورية كي يمكن تطبيقه بنجاح، إذ إنه يحتاج، أولاً، وقبل كل شيء إلى إصلاح المنظومة السياسية، فالفساد السياسي والتنمية لا يجتمعان، فضلاً عن أن التنمية الإنسانية الحقيقية تتطلب عدم تقييد الحريات، وفتح الفضاء العام، وتنظيم العمل السياسي، ووجود نظام انتخابي ديمقراطي عادل كي تكون هناك مشاركة شعبية واسعة وفاعلة في صنع السياسات واتخاذ القرارات العامة بما فيها القرارات المتعلقة بإدراة المالية العامة للدولة. كما يحتاج، ثانياً، إلى تغيير نمط الاقتصاد الريعي الاستهلاكي السائد حالياً إلى اقتصاد إنتاجي تتربت عليه تشكل علاقات إنتاج جديدة، ووجود قطاع خاص إنتاجي لا يشكل عبئاً ثقيلاً على الميزانية العامة للدولة، بل يدعمها من خلال دفع ضرائب تصاعدية على الدخل والأرباح، وتوفير فرص عمل جديدة للمواطنين.

ويحتاج النموذج الاقتصادي العادل، ثالثاً، إلى إصلاح إدارة المالية العامة مع توفير درجة شفافية عالية، ثم ضم الصناديق السيادية للميزانية العامة للدولة بحيث تكون فوائدها المالية العالية مصدرا أساسيا للإيرادات العامة على أن يتم الاحتفاظ بالإيرادات النفطية كي تكون احتياطا للمستقبل. أضف إلى ذلك ضرورة الأخذ في الاعتبار قضية العدالة الاجتماعية سواء في عملية توزيع الثروة الوطنية، أو في تحمُّل تبعات العجز المالي بحيث يوزع العبء بحسب الاستفادة من الميزانية العامة للدولة، وذلك على قاعدة عامة، وهي من يستفيد أكثر من الميزانية يساهم أكثر في دعمها. أما رابعاً فالنموذج الاقتصادي العادل يحتاج إلى إصلاح التركيبة السكانية، وتركيبة القوى العاملة، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة بشكل جذري وصحيح.