شريان العقل العربي هو الشعر، وأبيات الشعر مثل عينات الدم لعقليتنا، فبالقصيدةِ يكبس لنا الشاعر محصلة مجتمعه في كبسولة لُغوية، فباسم الله نُدخل أبيات الشعر المختبر، ونميز الخبيث من الطيب. لدغنا أبوالبقاء الرندي بشطر بيتٍ فيروسي "من سره زمنٌ ساءته أزمانُ"، شطر معاذ الله منه، يحثنا على هجر أخلاق البشاشة التي يحثنا عليها ديننا، ليتكهن بدروشة أن "المبسوط منكوب"، وحتى هذا اليوم توجد قبائل مشهورة بخوفها من الضحكة.

بسبب أفكار كهذه طلقنا الدنيا، وقبل هذا طلبت منا الثقافة الخُلع، بسبب هذه الأبيات السرطانية من شاكلة بيت المتنبي "ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ، وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ"، وكأنما "طه* ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" ما نزلت، أوَليس القرآن عين العقلانية؟ فكيف نرى العقلانية ملازمة للشقاوة؟ ومع هذا تسرطنت عقليتنا مجددا ببيت نفثهُ المتنبي في كريات "الأدب" الحمراء بقوله: "المجد للسيفِ ليس المجد للقلمِ"، رغم أن فيزياء الذرة النووية (التي ينالها أهل الأقلام) تفني عرمرم هارون الرشيد، وانكشارية العثمانيين مجتمعين، فما هي شجاعة كُليب أمام رصاصة رسمها المصنع بالقلم؟

Ad

وقد روي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قوله: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً فيَرِيَهُ، خير له من أن يمتلئ شعراً"، وليس في هذا تحريم لكتابة القصيد، لكنه تنبيه إلى أن الشعرَ يخل بتوازن العواطف لما له من قدرة على تضخيم عاطفة عن باقي العواطف المكبوتة.

بقصيدة واحدة يتزوج المكار بالتقية، ليكون الناتج مولوداً مع ورقة طلاق بدون نفقة، ويردها لو كره بـ"ما الحب إلا للحبيب الأول"! بيد أن الحب هو المودة والرحمة، كذلك ببيتِ شعرٍ موزون مقفى تُحشد أصوات الشعب لشخصية لا تتحلى بالكفاءة لتتقلد مناصب مفصلية بالبلد، وإذا أردنا أن نفتح سراديب أبيات الشعر الدينية، دون قصد للإساءة إلى مذهب معين، فسنرى أنه سبب انحراف عقائد تورد الهلاك. أشهد إن الشعر لسحرٌ خطير، ولكن هل كله شر؟

لا يمكننا إغفال أن الرسول الكريم استعان بشعراء في حربه الإعلامية قبل غزواته، كما أثنى على صالحي الشعراء، وكان يبتهج بشعر عنترة لما فيه من شجاعة، وفي الوقت ذاته يحذرنا من سوء الاستخدام، فالشعرُ يتحول لسرطان، أولم يقل العرب: "تجنب صحبة الشاعر"؟